فصل: (فَصْلٌ): قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا: فَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ نَوْعَانِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ أَمَّا الصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً غَيْرَ مَقْرُونٍ بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أَوْ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أَوْ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ، لَكِنْ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ بَعْدَهُ، لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أَوْ إشَارَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا إذَا عُرِفَ هَذَا فَصَرِيحُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطٍ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِلْحَالِ وَالتَّأَخُّرِ فِيمَا بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَوْ خَلَا بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا صَرِيحَ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ: لَمْ أُجَامِعْهَا كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْوَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً فَكَانَ بَائِنًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وَهُوَ الْخُلْعُ بِبَدَلٍ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ طَلَاقٌ عَلَى مَالٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَهُوَ مَالُهَا فَتَمْلِكُ هِيَ الْعِوَضَ الْآخَرَ وَهُوَ نَفْسَهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْبَائِنِ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى عَدَدِ الثَّلَاثِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَإِنْ أَشَارَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ أَشَارَ بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِهَا الْعِبَارَةُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ بِهَا وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ أَيْضًا أَمَّا الْعُرْفُ فَظَاهِرٌ.
(وَأَمَّا) الشَّرْعُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِبَارَةِ بِهَا مَقَامَ الْكَلَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَصَابِعِ عَدَدُ الْمُرْسَلِ مِنْهَا دُونَ الْمَقْبُوضِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَقَبَضَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فُهِمَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَقْبُوضُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ الْمُرْسَلُ مِنْهَا لَا الْمَقْبُوضُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ مُعَقِّبٌ لِلرَّجْعَةِ، فَلَمَّا قَالَ: بَائِنٌ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكِ عَارِيَّةً لَا رَدَّ فِيهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الْإِبَانَةَ، وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: بَائِنٌ قَرِينَةً مُبَيِّنَةً لَا مُغَيِّرَةً، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْأُخْرَى بِقَوْلِهِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا مُقْتَضًى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَدْنَى.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَوِيَّةً أَوْ شَدِيدَةً؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقَوِيَّةِ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْبَائِنُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً؛ لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَقْتَضِيَانِ الْقُوَّةَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ رَجْعِيٌّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَائِنٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً.
(وَلَنَا) أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صُورَةً وَبِالْقَصْرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَقَعُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا فَكَانَ الْقَصْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَصْفًا لَهُ بِالْقَصْرِ، وَالطَّلْقَةُ الْقَصِيرَةُ هِيَ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ أَشَدُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعِيِّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَصْلِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حُكْمًا مِنْ الرَّجْعِيَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ نِهَايَةِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِلْءَ الْبَيْتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْعِظَمُ وَالْقُوَّةُ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ رَجْعِيٌّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ بَائِنٌ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْبَائِنُ فَيَقَعُ بَائِنًا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبَعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِجِهَةِ الْإِبَانَةِ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِإِيقَاعِهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْبَائِنِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا تَثْبُت الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ شَبَّهَ صَرِيحَ الطَّلَاقَ بِالْعَدَدِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ وَإِمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا هُوَ ذُو عَدَدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ فَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (الْأَوَّلِ) هَذَا.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ، وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ.
(أَمَّا) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت بِهِ وَاحِدَةً دَيَّنْته فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ أُدَيِّنْهُ فِي الْقَضَاءِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ إذْ الْأَلْفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ ثَلَاثًا كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَلْفِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهُوَ صِفَةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الرِّجَالِ قَدْ يُشَبَّهُ بِأَلْفِ رَجُلٍ فِي الشَّجَاعَةِ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ الْعَدَدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَدَدِ بِالشَّكِّ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوَاحِدَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَتَعَيَّنَ التَّشْبِيهُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ.
وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ فَيَقَعُ بَائِنًا.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَوْ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ أَوْ مِثْلِ عَدَدِ ثَلَاثٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ فَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعَدَدِ يَنْفِي احْتِمَالَ إرَادَةِ الْوَاحِدِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ أَصْلًا كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى الْوَاحِدَةَ، وَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلُ عَدَدِ كَذَا أَوْ كَعَدَدِ كَذَا لِشَيْءٍ لَا عَدَدَ لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ لَغْوٌ فَبَطَلَ التَّشْبِيهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَاحَتِي أَوْ عَدَدَ مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي مِنْ الشَّعْرِ وَقَدْ حَلَقَ ظَهَرَ كَفِّهِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَا عَدَدَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِوُجُودِ الشَّعْرِ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ لِلْحَالِ وَلَيْسَ عَلَى رَاحَتِهِ وَلَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ شَعْرٌ لِلْحَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّشَبُّهُ بِالْعَدَدِ فَلَغَا التَّشَبُّهُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَأْسِي وَعَدَدَ شَعْرِ ظَهْرِ كَفِّي وَقَدْ حَلَقَهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ؛ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ ذُو عَدَدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَشْبِيهًا بِهِ حَالَ وُجُودِهِ، وَهُوَ حَالَ وُجُودِهِ ذُو عَدَدٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّشْبِيهِ بِوُجُودِهِ لِلْحَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِلْحَالِ، فَيَلْغُو التَّشْبِيهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلُ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلُ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي التَّوَحُّدِ؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي عَدَدٍ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا فِي الذَّاتِ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ بِهَا، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ أَوْ قَالَ: مِثْلَ عِظَمِ كَذَا فَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَبَلِ فِي الْعِظَمِ فَهَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الصَّرِيحُ ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ سَمَّى وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَا تَكُونُ إلَّا الْبَيْنُونَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِالثَّلَاثِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ يَكُونُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِكَوْنِهَا أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ شَكٌّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ وَإِذَا نَوَى بِهِ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ.
وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ:

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: مِنْ الْكِنَايَاتِ رَوَاجِعُ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي، وَاسْتَبِرِي رَحِمَك، وَأَنْتِ وَاحِدَةً أَمَّا قَوْلُهُ: اعْتَدِّي فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الْأَثَرَ وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اعْتَدِّي فَنَاشَدَتْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى تُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ فَرَاجَعَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا يَوْمَهَا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ.
وَالِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُقْتَضَى يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ مَا سِوَاهَا ثُمَّ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي إنَّمَا يُجْعَلُ مُقْتَضِيًا لِلطَّلَاقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا مِنْ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ: اسْتَبْرِي رَحِمَك تَفْسِيرُ قَوْلِهِ اعْتَدِّي؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ شُرِعَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَيُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ وَاحِدَةً فَلِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَاحِدَةً نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الطَّلْقَةُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً كَمَا يُقَالُ: أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا أَيْ: عَطَاءً جَزِيلًا وَاخْتُلِفَ فِي الْبَوَاقِي مِنْ الْكِنَايَاتِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّهَا بَوَائِنُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَاجِعُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ فَكَانَتْ مَجَازًا عَنْ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِدُونِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ الْكِنَايَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ رَوَاجِعَ فَكَذَا الْبَوَاقِي، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْبَيْنُونَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْلِ ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَثْبُتُ بِهِ قَبُولُ الْمَحِلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ فِي مَحِلٍّ لَا يَحْتَمِلُهَا مُحَالٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقَوْله تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}، وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
وَالتَّسْرِيحُ وَالْمُفَارَقَةُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَرُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَهَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ وَأَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ بِهَا الثَّلَاثَ، وَقَوْلُهُ: أَلْبَتَّةَ مِنْ الْكِنَايَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مَشْرُوعٌ فَوُجُودُ التَّصَرُّفِ- حَقِيقَةً- بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودُهُ- شَرْعًا- بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ الطَّلَاقِ فِي الْأَصْلِ لِمَكَانِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ تَخْتَلِفُ أَخْلَاقُهُمَا وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ إلَى الطَّلَاقِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجٍ يُوَافِقُهُ فَيَسْتَوْفِي مَصَالِحَ النِّكَاحِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، فَالشَّرْعُ شَرَعَ الطَّلَاقَ وَفَوَّضَ طَرِيقَ دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِعَادَةِ إلَى الْمُوَافَقَةِ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهِ يُطَلِّقُهَا طَلَاقًا وَاحِدًا رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا رَاجَعَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ تَتُوبَ وَتَعُودَ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ لَا تَتُوبُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي بِهَا يَزُولُ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ لِتَذُوقَ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَسَى وَإِذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْإِبَانَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا تَحْقِيقًا لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ حَقَائِقُ عَامِلَةٌ بِأَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلْعَمَلِ بِأَنْفُسِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِهَا لَا بِالْمُكَنَّى عَنْهُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ فَلَفْظُ الْمَجَازِ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ أَيْضًا كَلَفْظِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَيَعْمَلُ بِنَفْسِهِ كَالْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ لِلْمَجَازِ عُمُومًا كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِي الْحَقِيقَةِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ وَتَعْيِينَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ أَمْرِهِ.
وَذَلِكَ نَوْعَانِ: تَوْكِيلٌ، وَتَفْوِيضٌ أَمَّا التَّفْوِيضُ فَنَحْوُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَقَوْلِهِ اخْتَارِي، وَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ.

.(فَصْلٌ): قَوْلُهُ: أَمْرُك بِيَدِك:

أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْرُك بِيَدِك فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا التَّفْوِيضِ، وَهُوَ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ بَقَائِهِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ أَمَّا بَيَانُ صِفَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلَا نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَمَّا جُعِلَ إلَيْهَا وَلَا فَسْخَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَمَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شَيْئًا فَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالرُّجُوعِ وَالنَّهْيِ وَالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، بَلْ هُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ فَكَذَا بَعْدَ إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بَعْدَ إيجَابِهِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّمْلِيكِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَالْفَسْخُ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ رَأْسًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ هُوَ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ الْجَعْلُ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الْإِبْطَالِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ بِصَرِيحِ إبْطَالِهِ كَيْفَ يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ ثُمَّ قَامَ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ اخْتِيَارهَا نَفْسَهَا فِي التَّطْلِيقِ وَبَيْنَ اخْتِيَارهَا زَوْجَهَا، وَالتَّخْيِيرُ بِنَا فِي اللُّزُومَ.
(وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَهُوَ صَيْرُورَةُ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَعْلِ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْجَعْلِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا.
(وَأَمَّا) شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا نِيَّةُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ؟ حَتَّى لَوْ قَالَ الزَّوْجُ مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُصَدَّقُ وَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ الْحَالُ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ أَوْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ.
لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ، فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ ادَّعَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَذِكْرَ الطَّلَاقِ يَقِفُ الشُّهُودَ عَلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بِهَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَتُقْبَلُ، وَلَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وُقُوفَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ فِي الْقَلْبِ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً لَا عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ.
وَالثَّانِي عِلْمُ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ لَمْ تَسْمَعْ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا مَا لَمْ تَسْمَعْ أَوْ يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ لِأَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ هُوَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ زَوْجَهَا بِتَرْكِ الطَّلَاقِ اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالتَّخْيِيرِ فَإِذَا عَلِمَتْ بِالتَّخْيِيرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ عَلِمَتْ إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ وَعَلِمَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا.
فَأَمَّا إذَا عَلِمَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ الْمُؤَقَّتَ بِوَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيضِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ شَرْطِ بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ فَلَنْ يُمْكِنَ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَالْمُنَجَّزُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك فَشَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِهِ بَقَاءُ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا بِالتَّفْوِيضِ فَمَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمَرَهَا فِي الطَّلَاقِ بِيَدِهَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِرَأْيِهَا وَتَدْبِيرِهَا كَيْفَ شَاءَتْ بِمَشِيئَةِ الْإِيثَارِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَةِ الْإِيثَارِ.
وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَتْ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْخِطَابَ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَقَيَّدُ جَوَابُ التَّمْلِيكِ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَبُولِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ قَصُرَ الْمَجْلِسُ أَوْ طَالَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَلَا ضَابِطَ لَهُ إلَّا الْمَجْلِسَ فَقُدِّرَ بِالْمَجْلِسِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَلْمُخَيَّرَةِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا بَقِيَ الْمَجْلِسُ فَإِنْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْقِيَامُ عَنْ الْمَجْلِسِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَوَابِ التَّمْلِيكِ فَكَانَ رَدًّا لِلتَّمْلِيكِ دَلَالَةً؛ وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَمْلِكُ الْجَوَابَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا فِي غَيْرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهَا عَنْ الْجَوَابِ بِأَنْ دَعَتْ بِطَعَامٍ لِتَأْكُلَ أَوْ أَمَرَتْ وَكِيلَهَا بِشَيْءٍ أَوْ خَاطَبَتْ إنْسَانًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَرَكِبَتْ أَوْ رَاكِبَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أَوْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ مَكَّنَتْ زَوْجَهَا حَتَّى وَطِئَهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِالنَّوْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَوْ كَانَا فِي مَحْمَلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ أَجَابَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَّا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِ الرَّاكِبِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فَوَقَفَتْ الدَّابَّةُ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي سَفِينَةٍ فَسَارَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْتِ؛ وَكُلُّ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ يَبْطُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ وَمَا لَا فَلَا فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَقَامَتْ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَجْمَعُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَكَانَ الْقُعُودُ دَلِيلَ إرَادَةِ التَّأَمُّلِ، وَالْقِيَامُ دَلِيلَ إرَادَة الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةً يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَقْعُدُ لِيَجْتَمِعَ رَأْيُهُ فَأَمَّا الْقَاعِدُ فَلَا يَتَّكِئُ لِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَنْتَقِلُ مِنْ الِاتِّكَاءِ إلَى الْقُعُودِ مِرَّةً وَمِنْ الْقُعُودِ إلَى الِاتِّكَاءِ أُخْرَى، وَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ؛ فَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَإِنْ ابْتَدَأَتْ الصَّلَاةَ بَطَلَ خِيَارُهَا فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا أَوْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالصَّلَاةِ إعْرَاضٌ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَأَتَمَّتْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَوْ الْوَاجِبِ كَالْوِتْرِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْإِتْمَامِ لِكَوْنِهَا مَمْنُوعَةً مِنْ الْإِفْسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْمَامُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنْ سَلَّمَتْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الشَّفْعِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ أُخْبِرَتْ وَهِيَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ فَأَتَمَّتْ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَبْطُلُ خِيَارُهَا كَمَا فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَبْطُلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ فَكَانَتْ مَنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِيَدِهَا فَأَقَامَهَا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ تَمْتَنِعْ فَقَدْ قَامَتْ بِاخْتِيَارِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ.
وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تَمْتَنِعَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ اخْتَرْتُ نَفْسِي فَلَمَّا لَمْ تَقُلْ فَقَدْ أَعْرَضَتْ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ أَكَلَتْ طَعَامًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِطَعَامٍ أَوْ شَرِبَتْ شَرَابًا قَلِيلًا أَوْ نَامَتْ قَاعِدَةً أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ لَبِسَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ وَلَمْ تَقُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إحْضَارِ الشُّهُودِ فَتَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لِتَسْتَتِرَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ، وَالْأَكْلُ الْيَسِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَكَذَا النَّوْمُ قَاعِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْتَغِلَ بِهِ.
وَكَذَا إذَا سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ شَيْئًا قَلِيلًا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الْيَسِيرَ وَالْقِرَاءَةَ الْقَلِيلَةَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْإِعْرَاضِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عَنْ التَّسْبِيحِ الْقَلِيلِ وَالْقِرَاءَةِ الْقَلِيلَةِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْخِيَارِ لَانْسَدَّ بَابُ التَّفْوِيضِ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الطَّوِيلَ مِنْهُ يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاض وَلَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، فَإِنْ قَالَتْ: اُدْعُ لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ صِيَانَةً لِاخْتِيَارِهَا عَنْ الْجُحُودِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ: اُدْعُ لِي أَبِي أَسْتَشِيرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشُورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا أَرَادَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك»، وَلَوْ كَانَتْ الْمَشُورَةُ مُبْطِلَةً لِلْخِيَارِ لَمَا نَدَبَهَا إلَى الْمَشُورَةِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُك أَوْ قَالَتْ: لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِرَدِّ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرَّدِّ فَبِالصَّرِيحِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّمْلِيكُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا أَوْ بِدُونِهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا رَدُّ التَّمْلِيكِ فَيَرْتَدُّ مَا جُعِلَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ هَذَا إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُوَقَّتًا فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا.
وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ كَلَامٍ آخَرَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ مُطْلَقًا لِيَكُونَ طَالِبًا جَوَابَهَا فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ مَلَّكَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا نَذْكُرُ فَإِنْ وَقَّتَهُ بِوَقْتٍ خَاصٍّ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ قَالَ: الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ قَالَ: هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذِهِ السَّنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَلَهَا الْأَمْرُ فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِيمَا شَاءَتْ مِنْهُ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ تَشَاغَلَتْ بِغَيْرِ الْجَوَابِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا مَا بَقِيَ الْوَقْتُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْوَقْتُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِإِعْرَاضِهَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ، وَكَانَ الْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ سَوَاءً غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ مُنْكِرًا فَلَهَا الْأَمْرُ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا إلَى مِثْلِهَا مِنْ الْغَدِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ وَشَهْرٍ تَامٍّ وَسَنَةٍ تَامَّةٍ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا قُلْنَا.
وَيَكُونُ الشَّهْرُ هاهنا بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَرَّفًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَفِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وَفِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْبَاقِي وَيُعْتَبَرُ الشَّهْرُ هاهنا بِالْهِلَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ مَرَّةً لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْوَقْتَ وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت زَوْجِي أَوْ قَالَتْ: لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ حَتَّى لَا تَمْلِكَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفُ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ، فَإِعْرَاضُهَا فِي بَعْضِ الْوَقْتِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهَا فِي الْجَمِيعِ كَمَا إذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ.
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّ قَوْلَهَا: اخْتَرْتُ زَوْجِي رَدٌّ لِلتَّمْلِيكِ.
وَالتَّمْلِيكُ تَمْلِيكٌ وَاحِدٌ فَيَبْطُلُ بِرَدٍّ وَاحِدٍ كَتَمْلِيكِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَدٍّ حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ رَدًّا فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْوَقْتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْمَجْلِسُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فَلَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَقِيَ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ مِنْهَا الْجَوَابَ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك هَذَا الْيَوْمَ كَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْيَوْمَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عُمْرِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ عُمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عُمْرَهُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، فَإِذَا صَارَ الْيَوْمُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي جُعِلَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ فِي عُمْرِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جُزْءًا مِنْ عُمْرِهِ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، وَإِذَا صَارَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ جُزْءٌ أَوْلَى مِنْ جُزْءٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَرْكِ الْجَوَابِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا التَّفْوِيضُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِك فَقَدِمَ فُلَانٌ فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا إذَا عَلِمَتْ فِي مَجْلِسِهَا الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الْقُدُومِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا.
وَإِنْ مُوَقَّتًا بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا أَوْ قَالَ: الْيَوْمُ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَإِذَا قَدِمَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ.
بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا.
وَإِنْ عَرَّفَهُ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ.
وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا لِمَا مَرَّ.
وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ؛ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَجَاءَ الْوَقْتُ؛ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَكَذَا تَمْلِيكُهُ وَكَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا مِنْ أَوَّلِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ وَأَوَّلِ الْغَدِ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي وَرَأْسُ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ وَيَوْمَهَا، وَإِنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك إذَا هَلَّ الشَّهْرُ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا سَاعَةَ يَهُلُّ الْهِلَالُ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ.
وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا، أَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَهَا الْأَمْرُ فِي الْيَوْمَيْنِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِي أَيِّهِمَا شَاءَتْ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتَيْنِ.
وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ، ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَسَبَ الْقَوْلَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي وَقْتَيْنِ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا وَقْتًا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْ صَاحِبِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْرِ مُفْرَدًا بِهِ فَيَتَعَدَّدُ التَّفْوِيضُ مَعْنًى كَأَنَّهُ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ فَرَدُّ الْأَمْرِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا أَوْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَبْطُلُ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّمَانَ وَاحِدٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ مَا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ وَاحِدًا فَرَدُّ الْأَمْرِ فِيهِ يُبْطِلُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ أَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهَا غَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ اللَّفْظَ فَقَدْ تَعَدَّدَ التَّفْوِيضُ، فَرَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْآخَرِ، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ فَلَهَا ذَلِكَ، وَتَطْلُقُ أُخْرَى إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ التَّفْوِيضَيْنِ طَلَاقًا، فَالْإِيقَاعُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالْآخَرِ، وَلَوْ قَالَ: لَهَا أَمْرُك بِيَدِك هَذِهِ السَّنَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَلْزَمَهَا الطَّلَاقُ فِي الْخِيَارِ الثَّانِي وَلَسْت أَرْوِي هَذَا عَنْهُ، وَلَكِنْ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَلَوْ كَانَ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا، وَلَكِنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْخِيَارُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَالْمُوَكِّلِ إذَا بَاعَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ مَا دَامَ طَلَاقُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ قَائِمًا كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، وَقَوْلُهُ: الزَّوْجُ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً فَيَقْتَضِي خُرُوجَ الْمُفَوَّضِ مِنْ يَدِهِ لَا غَيْرُ، كَمَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ ثَوْبَيْنِ لَهُ فَبَاعَ الْمُوَكَّلُ أَحَدَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) بَيَانُ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالتَّفْوِيضِ: فَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَمْلِكَ رَدَّهُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَخْيِيرٌ لَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لَا يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى يَدِهَا بِذَلِكَ الْجَعْلِ أَبَدًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْتِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} وَقَالَ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فَيُقْتَضَى تَكْرَارُ التَّمْلِيكِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا لَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ: أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا اخْتَارَتْ فَقَدْ انْتَهَى مُوجَبُ ذَلِكَ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ يَتَجَدَّدُ لَهَا الْمِلْكُ بِتَمْلِيكٍ آخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ مَشِيئَةٍ أُخْرَى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ بَانَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ طَلَقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا طَلَقَاتِ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ فَمَا لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ؟ وَإِنْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ فَلَهَا أَنْ تَشَاءَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً لَا يَتَكَرَّرُ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَقْتِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى مُوجِبُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ التَّفْوِيضُ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ: فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مِنْ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ يَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ وَمَا لَا فَلَا إلَّا فِي لَفْظِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ وَيَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا، فَمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا فَلَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ أَوْ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيْكَ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي وَعَلَيَّ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنِّي أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيَّ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا بَائِنٌ أَوْ أَنَا حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنَا طَالِقٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا مِنْك طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي كَانَ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقًا، وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا فَطَلَاقٌ وَاحِدٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك وَلَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ، أَمَّا وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّفْوِيضِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعَدَدِ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا بَائِنَةً فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ، وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِنَا مُنْبِيَاتٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك جَعَلَ أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةَ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةَ نَفْسِهَا بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ.
وَإِنْ قَرَنَ بِهِ ذِكْرَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الصَّرِيحَ حَيْثُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَإِنَّمَا مَلَّكَهَا التَّطْلِيقَةَ وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصِّ كَلَامِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَقَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى الثَّلَاثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ الْوَاحِدُ وَيُحْتَمَلُ الثَّلَاثُ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَلَمْ تَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ ثَلَاثًا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا، وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى ثَلَاثًا فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَهِيَ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَتَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً.
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا بِوَاحِدَةٍ أَيْ: بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَحُّدِ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَانْقِطَاعُ الْعُلْقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالثَّلَاثِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا جَعَلَتْ التَّوَحُّدَ هُنَاكَ صِفَةَ الْمُخْتَارِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا صِفَةَ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): قَوْلُهُ: اخْتَارِي:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: اخْتَارِي فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَاضِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَتَخْيِيرُهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك يَصِحُّ، وَفِي قَوْلِهِ اخْتَارِي لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي اخْتَارِي لابد مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ إمَّا فِي تَفْوِيضِ الزَّوْجِ وَإِمَّا فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَك وَتَقُولُ: اخْتَرْتُ أَوْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي فَتَقُولُ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ أَوْ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَهُوَ تَكْرَارُ التَّخْيِيرِ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ أَوْ ذِكْرُ الِاخْتِيَارِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ؟ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا تَطْلُقُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {أَجْرًا عَظِيمًا} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّخْيِيرِ مَعْنًى وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {أَجْرًا عَظِيمًا} فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» وَفَعَلَ سَائِرُ أَزْوَاجِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ فَدَلَّ أَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِيَارَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَا شَبَّهُوا أَيْضًا هَذَا الْخِيَارَ بِالْخِيَارَاتِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِذَلِكَ الْخِيَارِ، فَكَذَا بِهَذَا وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَلِكَ دَلِيلُ أَصْلِ الْوُقُوعِ إذْ الْكَيْفِيَّةُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْصُوفِ فَثَبَتَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْعِ فَيُتَّبَعُ مَوْرِدُ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ مَعَ قَرِينَةِ الْفِرَاقِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ قَرِينَةِ النَّفْسِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْفِرَاقِ مُضْمَرٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ كَأَنَّهُ قَالَ: {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ تَخْيِيرًا لَهُنَّ بَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَكُنَّ مُخْتَارَاتٍ لِلطَّلَاقِ لَوْ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُنَّ الدُّنْيَا وَزْنِيَّتهَا اخْتِيَارًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا.
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْمَجْلِسَ، وَقَالُوا: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ الشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَيُقْتَصَرُ حُكْمُهُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي مَعْنَاهُ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ فَلَمْ تَأْتِ بِالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ وَإِذَا قَالَ: لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك وَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَتَتْ بِالْجَوَابِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: أَخْتَارُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الِاخْتِيَارِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتِيَارَةً يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالثَّانِي مَعْنَى التَّوَحُّدِ وَالتَّفَرُّدِ، فَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك، فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَ جَوَابًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي أَوْ أَهْلِي وَالْأَزْوَاجَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ جَوَابًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ وَلَا فِي لَفْظِ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَلْحَقُ بِأَبَوَيْهَا وَأَهْلِهَا وَتَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ عَادَةً، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا هَؤُلَاءِ دَلَالَةً عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقَ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ.
(وَأَمَّا) الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ وَاحِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ- وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ- وَيَكُونُ بَائِنًا عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ بِالتَّخْيِيرِ الطَّلَاقَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَنَوَتْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَيْضًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا» وَعَنْ مَسْرُوقٍ.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ يَكُونُ طَلَاقًا؟ فَقَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ طَلَاقًا»؛ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ.
وَاخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاض عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا؟ وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ أَحَدِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَقَعُ بَائِنًا لَا رَجْعِيًّا وَلَا ثَلَاثًا أَمَّا وُقُوعُ الْبَائِنِ:
فَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا لَوْ كَانَ الْوَاقِعُ رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ لِزَوْجِهَا؛ إذْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ.
وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَإِنْ وُجِدَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي التَّخْيِيرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَقَعَ بِالِاخْتِيَارِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا بِالشَّرْعِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّخْيِيرِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا بِتَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ وَبَيْنَ رَدِّ التَّطْلِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك فَإِنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الثَّلَاثِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّدُ، فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، وَلَوْ كَرَّرَ التَّخْيِيرَ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي وَنَوَى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْتُ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالثَّانِي لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُفَسَّرُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا أَيْضًا وَلَا عِلَّةً وَلَا حُكْمًا لِلْأَوَّلِ؛ فَيَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَالتَّكْرَارُ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ، قَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَكُونُ جَوَابًا لَهُمَا جَمِيعًا، وَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ بَائِنٌ فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الثَّانِي بِحَرْفِ الصِّلَةِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي؛ لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ إلَّا أَنَّ الْفَاءَ قَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْحُكْمِ؛ كَمَا يُقَالُ: أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ، وَيُقَالُ قَدْ أَتَاك الْغَوْثُ فَأَبْشِرْ، لَكِنْ هاهنا لَا تَصْلُحُ عِلَّةً وَلَا حُكْمًا فَتَكُونُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ قَالَ: لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي، أَوْ قَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَهِيَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهَا مَا أَوْقَعَتْ إلَّا وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إلَّا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ فَلَا تَقَعُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ وَاحِدَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ جُمْلَةً لَيْسَ فِيهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ يَكُونُ لَغْوًا فَيَبْطُلُ تَعْيِينُهَا وَيَبْقَى قَوْلُهُ اخْتَرْتُ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ جَوَابَ الْكُلِّ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي أَوْ ذَكَرَ التَّخْيِيرَيْنِ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَوْ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَرْتُ الْكُلَّ مَرَّةً فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ الزَّوْجِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ قَالَتْ اخْتَرْتُ مَرَّةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأَخِيرَةِ كَانَتْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى أَوْ بِالْوُسْطَى كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَعْيِينَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ الْمُمَلَّكَةُ جُمْلَةً لَيْسَ لَهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَكَانَ التَّعْيِينُ هاهنا لَغْوًا فَبَطَلَ التَّعْيِينُ وَبَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْتُ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ كَذَا هَذَا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ اخْتِيَارَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ صَحِيحٌ وَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَا يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ إلَّا إذَا اخْتَارَتْ الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّخْيِيرَاتِ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ حَرْفُ الْجَمْعِ فَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرًا تَامًّا بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ.
وَالْبَدَلُ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي التَّخْيِيرِ الْأَخِيرِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْأَخِيرَةِ، وَلَوْ ذَكَرَ حَرْفَ الْوَاوِ أَوْ حَرْفَ الْفَاءِ فَقَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ التَّخْيِيرَاتِ الثَّلَاثِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ جَعَلَ الْكُلَّ كَلَامًا وَاحِدًا وَقَدْ أَمَرَهَا أَنْ تُحَرِّمَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَا تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.(فَصْلٌ): قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ اخْتَارِي فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ هاهنا رَجْعِيٌّ وَهُنَاكَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَ هاهنا صَرِيحٌ وَهُنَاكَ كِنَايَةٌ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْتِ أَوْ أَرَدْتِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شِئْت.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ أَيْنَمَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ شِئْت؛ لِأَنَّ حَيْثُ وَأَيْنَ اسْمُ مَكَان وَمَا صِلَةٌ فِيهِمَا وَلَا تَعَلُّقَ لِلطَّلَاقِ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو ذِكْرُهُمَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَيَبْقَى ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت غَيْرَ أَنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ مَا شَاءَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَمْ لِلْقَدْرِ وَقَدْرُ الطَّلَاقِ هُوَ الْعَدَدُ وَالْعَدَدُ هُوَ الْوَاقِعُ.
وَكَذَا كَلِمَةُ مَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْقَدْرِ يُقَالُ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْتَ أَيْ الْقَدْرَ الَّذِي شِئْتَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَعْدَ الْقِيَامِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ عَلَى مَا مَرَّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْتِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ- وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ الثَّابِتُ- مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الطَّلَاقُ، لَكِنَّهُ عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ الْمُعَلَّقُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ.
وَإِذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْمَشِيئَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكُلِّ مَشِيئَةٍ وَالْمُفَوَّضَ إلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْبَائِنَةُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا تَمْلِكُ الثَّلَاثَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ طَلُقَتْ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ صِفَةُ الْوَاقِعِ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ، وَعِنْدَهُمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ الْمَشِيئَةُ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ وَقَدْ عَلَّقَ الْوَصْفَ بِالْمَشِيئَةِ، وَتَعْلِيقُ الْوَصْفِ بِالْمَشِيئَةِ تَعْلِيقُ الْأَصْلِ بِالْمَشِيئَةِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الصِّفَةِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ، وَإِذَا تَعَلَّقَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَنْزِلُ مَا لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ أَوْقَعَ أَصْلَ الطَّلَاقِ لِلْحَالِ وَفَوَّضَ تَكْيِيفَ الْوَاقِعِ إلَى مَشِيئَتِهَا؛ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ لِلْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَيْفِيَّةَ فلابد مِنْ وُجُودِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِتَتَخَيَّرَ هِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الزَّوْجَ كَيَّفَ الْمَعْدُومَ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُكَيَّفُ فلابد مِنْ الْوُجُودِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ الْوُقُوعُ ثُمَّ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ وَلَا الثَّلَاثَ فَشَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ مَا شَاءَتْ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ الْكَيْفِيَّةَ إلَيْهَا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ أَوْ الثَّلَاثَ فَإِذَا وَافَقَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا: شِئْتُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا.
وَقَالَ الزَّوْجُ: ذَلِكَ نَوَيْتُ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ نِيَّةٌ فَقَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ الْوَاقِعُ مَا شَاءَتْ؛ فَإِذَا وَاقَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ أَوْلَى، وَإِنْ خَالَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ: شِئْتُ ثَلَاثًا.
وَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْتُ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ آخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سِوَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا إذَا قَالَتْ: شِئْتُ وَاحِدَةً ثَانِيَةً فَتَصِيرُ تِلْكَ الطَّلْقَةُ ثَانِيَةً لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِمَشِيئَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَتْ: شِئْتُ وَاحِدَةً.
وَقَالَ الزَّوْجُ: نَوَيْتُ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ حَالَ وُجُودِهِ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا وَلَا نِيَّةَ لِلزَّوْجِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ وَهِيَ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَتْ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: شِئْتُ إنْ كَانَ كَذَا فَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ نَحْوَ مَا إذَا قَالَتْ: إنْ كَانَ هَذَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَإِنْ كَانَ هَذَا أَبِي وَأُمِّي أَوْ زَوْجِي وَنَحْوُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ، وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ وَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ فَقَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ وَهِيَ أَبَتْ بِالتَّعْلِيقِ، وَالتَّنْجِيزُ غَيْرُ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ تَطْلِيقٌ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهُ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ فُلَانٍ؛ فَإِنْ شَاءَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ، وَالتَّعْلِيقُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقِفُ الْوُقُوعُ عَلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ يَقَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَا وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ تَوْكِيلٌ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَجْنَبِيٍّ: طَلِّقْ امْرَأَتِي تَوْكِيلٌ وَلَا يَتَقَيَّد بِالْمَجْلِسِ، وَهُوَ فَصْلُ التَّوْكِيلِ فَإِنْ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ فَهَذَا تَمْلِيكٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ.
أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْأَمْرَ بِالتَّطْلِيقِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ كَانَ تَوْكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ إلَّا الشَّخْصُ وَالصِّيغَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ.
وَكَذَا إذَا قَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا إذْ هِيَ غَيْرُ مُضْطَرَّةٍ فِي ذَلِكَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ لَغْوًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَك، وَأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَلَنَا لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكٌ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْمَرْأَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ فَكَانَ تَفْوِيضُ التَّطْلِيقِ إلَيْهَا تَمْلِيكًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ لِلزَّوْجِ وَالِاخْتِيَارَ لَهُ، فَكَانَ إضَافَةُ الْأَمْرِ إلَيْهِ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَالْمُتَصَرِّفَ عَنْ تَوْكِيلٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ؛ وَالْمَرْأَةُ عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا بِالتَّطْلِيقِ تَرْفَعُ قَيْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ،.
فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَإِنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ عَائِدَةٌ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُتَصَرِّفًا عَنْ تَوْكِيلٍ وَأَمْرٍ لَا عَنْ مِلْكٍ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَوْكِيلًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ وَكِيلَةً فِي حَقِّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ بِالتَّطْلِيقِ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَالْإِنْسَانُ يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ لَكَانَ تَوْكِيلًا فَكَذَا إذَا قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ وَالْإِطْلَاقَ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ وَلَا مَحَالَةَ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّطْلِيقِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِيهِ، وَلَنَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي الْمُطْلَقِ، فَيَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ الْغَيْرِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا.
وَأَمَّا فِي الْمُقَيَّدِ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ رَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ نَفْسِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ؛ وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَهَذَا فَرْقٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ: التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ، فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِمَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْفِي الْغَلَبَةَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا: الْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَوَلَّى تَخْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ التَّخْلِيقُ، بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ يُقَالُ: إنْ شِئْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ أَيْ: إنْ شِئْت آثَرْتُ الْفِعْلَ وَإِنْ شِئْتُ آثَرْتُ التَّرْكَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ قَوْلِنَا: الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ هاهنا هُوَ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ لَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَلَغَا كَلَامُهُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ لَمْ يَلْغُ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَان، وَاخْتِيَارِ الْإِيثَارِ فِي التَّمْلِيكِ لَا فِي التَّوْكِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ عَنْ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَتَدْبِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُ مِنْهُ الْعِبَارَةَ فَقَطْ فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَا مِنْ الْوَكِيلِ.
وَأَمَّا الْمُمَلَّكُ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِيثَارِهِ لَا بِالْمُمَلِّكِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ مُفِيدًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لُغَةً هُوَ الْإِنَابَةُ، وَالتَّفْوِيضَ هُوَ التَّسْلِيمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِذَلِكَ سَمَّى مَشَايِخُنَا الْأَوَّلَ تَوْكِيلًا وَالثَّانِيَ تَفْوِيضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَالْمُطْلَقَ تَوْكِيلٌ وَالتَّمْلِيكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُمَلَّكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِشَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْخِطَابِ؛ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا وُكِّلَ بِتَحْصِيلِهِ فِي الْمَجْلِسِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِشَيْءٍ لَا يَحْضُرُهُ الْمُوَكِّلُ وَيُفْعَلُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَسْتَغْنِي بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ عَنْ اسْتِعَارَةِ عِبَارَةِ غَيْرِهِ فَلَوْ تَقَيَّدَ التَّوْكِيلُ بِالْمَجْلِسِ لَخَلَا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَيَكُونُ سَفَهًا وَيَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلَهُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَدْ صَارَ الثَّلَاثُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إيَّاهَا طَلِّقِي نَفْسَكَ أَيْ: حَصِّلِي طَلَاقًا، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الثِّنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ لَفْظُ وُحْدَانٍ وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ لَا تَوَحُّدَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ فِي الشَّاهِدِ يُصْرَفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اسْقِ هَذِهِ الْأَرْضَ وَكَانَتْ الْأَرْضُ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ إلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ بِالسَّقْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اضْرِبْ هَذَا الَّذِي اسْتَخَفَّ بِي يَنْصَرِفُ إلَى ضَرْبٍ يَقَعُ بِهِ التَّأْدِيبُ عَادَةً وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِانْزِجَارُ وَمَنْ أَصَابَتْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اغْسِلِيهِ لَا تَصِيرُ مُؤْتَمِرَةً إلَّا بِغَسْلٍ مُحَصِّلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِي الشَّاهِدِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ وَالْعُرْفِ، وَالْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مُخْتَلِفٌ؛ فَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْمِلْكِ وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ سَدًّا لِبَابِ التَّدَارُكِ، فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى انْصَرَفَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَوْ الِاثْنَتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةَ كَالزَّوْجِ سَوَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ اقْتِضَاءَ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَ وَاحِدَةً تَقَعُ كَالزَّوْجِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَقَدْ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الثَّلَاثِ، وَبَعْضُ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ مَمْلُوكًا، وَلَوْ قَالَ: لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهَا أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا وَزَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَذَا هَذَا كَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَتَلْغُو صِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وُجُوهٌ مِنْ الْفِقْهِ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ إمَّا أَنْ تَقَعَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ مَقْصُودًا أَوْ ضِمْنًا أَوْ ضَرُورَةَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِانْعِدَامِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَوُجُودِ لَفْظٍ آخَرَ وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهَا نَفْسِي وَسُكُوتِهَا عَلَيْهِ، وَوَقْتَ وُقُوعِهَا مَعَ الثَّلَاثِ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ إذْ الزَّوْجُ لَمْ يُمَلِّكْهَا الثَّلَاثَ فَلَا تَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ فَلَا تَقَعُ الْوَاحِدَةُ ضِمْنًا لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَمَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ، وَمَالِكُ إيقَاعِ الثَّلَاثِ يَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقَتْ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ثَمَّ أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِوُجُودِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَقْتَ وُقُوعِهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثُمَّ اشْتَغَلَتْ بِغَيْرِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهَا فَلَغَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْقَعَتْ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً عَلَى مَا نَذْكُرُ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي إنَّ الْمَرْأَةَ بِقَوْلِهَا: طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا أَعْرَضَتْ عَمَّا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا، وَدَلَالَةُ أَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الْوَاحِدَةَ وَهِيَ أَتَتْ بِالثَّلَاثِ؛ وَالْوَاحِدَةُ مِنْ الثَّلَاثِ إنْ لَمْ تَكُنْ غَيْرَ الثَّلَاثِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ ذَاتًا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَيْرَ نَفْسِهِ لَكِنَّهَا غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتًا.
(أَمَّا) اللَّفْظُ فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ لَفْظِ الثَّلَاثِ.
وَكَذَا حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الثَّلَاثِ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ وَقْتِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَالثَّلَاثَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَدَدَ وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ ذِكْرُ عَدَدٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَيَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَصَارَتْ الْمَرْأَةُ بِاشْتِغَالِهَا بِذِكْرِ الثَّلَاثِ لَفْظًا مُعْرِضَةً عَنْ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِصَيْرُورَتِهَا مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ، وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَمَّا مَلَكَتْ؛ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مَا مَلَكَتْ يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّمْلِيكِ وَخُرُوجَ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَتَفْوِيضَ الثَّلَاثِ تَفْوِيضُ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكَ الثَّلَاثِ تَمْلِيكُ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الثَّلَاثِ وَجُزْءُ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ فَلَمْ تَصِرْ بِاشْتِغَالِهَا بِالْوَاحِدَةِ مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ وَلَا تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ.
فَأَمَّا تَمْلِيكُ الْجُزْءِ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الْكُلِّ فَافْتَرَقَا.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ، وَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَأَعْتَقَتْ عَبْدَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّوَحُّدِ، وَالتَّوَحُّدُ يُنْبِئُ عَنْ التَّفَرُّدِ فِي اللُّغَةِ فَكَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ غَيْرِهَا؛ وَهِيَ وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ بِإِتْيَانِهَا بِالثَّلَاثِ فَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِثَلَاثٍ مُجْتَمِعَةٍ وَالثَّلَاثُ الْمُجْتَمِعَةُ لَا يُوجَدُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مُنْفَرِدَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لِتَضَادٍّ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَكِنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً وَقَعَتْ كَمَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً، وَلَوْ كَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ لَمَا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِذَا صَارَتْ الثَّلَاثُ- مُطْلَقًا- مَمْلُوكَةً لَهَا، مُجْتَمَعَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَرِدَةً صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَمْلُوكَةً لَهَا مُنْفَرِدَةً كَانَتْ أَوْ مُجْتَمَعَةً، فَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَدْ أَتَتْ بِالْمَمْلُوكِ ضَرُورَةً، وَهُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ وَزِيَادَةً فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ، وَهَاهُنَا مَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا أَصْلًا وَرَأْسًا فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا وَزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ إلَيْهَا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلَغَا الْوَصْفُ وَهُوَ وَصْفُ الْبَيْنُونَةِ وَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ بِشَرْطِ مَشِيئَتِهَا الثَّلَاثَ فَإِذَا شَاءَتْ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ لِوُجُودِ بَعْضِ شَرْطِ الْمِلْكِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ: تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ مَا شِئْتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ الرَّغِيفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَا كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَكَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً فلابد مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا مِنْ الثَّلَاثِ بَعْضًا لَهُ عُمُومٌ وَذَلِكَ اثْنَانِ؛ فَتَمْلِكُ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا وَهُوَ الثِّنْتَانِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّغِيفِ صُرِفَتْ كَلِمَةُ مِنْ عَنْ حَقِيقَتِهَا إلَى الْجِنْسِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ هُوَ السَّمَاحُ دُونَ الشُّحِّ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ قُدِّمَ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْتُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يَقَعُ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَمَرَهَا بِالتَّطْلِيقِ فَمَا لَمْ تُطَلِّقْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَمَشِيئَةُ التَّطْلِيقِ لَا تَكُونُ تَطْلِيقًا، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَقَدْ شَاءَتْ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ قَوْلَهَا أَبَنْتُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ لُغَةً، وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ لُغَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ يَتَأَخَّرُ شَرْعًا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَكَانَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مُوَافَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَإِذَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي فَقَدْ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزَادَتْ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَتَلْغُو الصِّفَةُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْتُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُكِ أَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ، بَلْ يَبْطُلُ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا فِي غَيْرِهِ فَيَلْغُو، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ كَأَنَّهَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَائِنًا أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَطَلَّقَتْ رَجْعِيَّةً يَقَعُ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ لَا مَا أَتَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ لَهَا؛ فَتَمْلِكُ مَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ وَمَا أَتَتْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَإِذَا وَقَعَ الْأَصْلُ اسْتَتْبَعَ الْوَصْفُ الْمُمَلَّكُ فَيَقَعُ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.(فَصْلٌ): في إرسالِ الرَّسُولِ بالطَّلَاقِ:

وَأَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَبْعَثَ الزَّوْجُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ الْغَائِبَةِ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ فَيَذْهَبُ الرَّسُولُ إلَيْهَا وَيُبَلِّغُهَا الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ كَلَامَ الْمُرْسِلِ فَكَانَ كَلَامُهُ كَكَلَامِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
عَدَمُ الشَّكِّ مِنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ شَكَّ فِيهِ، لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ، أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ وَلَا يَرِثَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَقَارِبِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشَّكِّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ- «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» اعْتَبَرَ الْيَقِينَ وَأَلْغَى الشَّكَّ ثُمَّ شَكُّ الزَّوْجِ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ التَّطْلِيقِ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَقَدْرِهِ؛ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ صِفَةِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً فَإِنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ يُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ، وَإِنْ وَقَعَ فِي وَصْفِهِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَتْ مُتَيَقَّنًا بِهَا.

.(فَصْل) وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ:

فَمِنْهَا الْمِلْكُ أَوْ عَلَقَةٌ مِنْ عَلَائِقِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي عَلَقَةٍ مِنْ عَلَائِقِ الْمِلْكِ وَهِيَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى وَقْتٍ أَمَّا التَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ فَبَاطِلٌ؛ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالُ الْحِلِّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ وَلَا حِلَّ وَلَا قَيْدَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إبْطَالُهُ وَرَفْعُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ».
وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ فَنَوْعَانِ: تَعْلِيقٌ فِي الْمِلْكِ، وَتَعْلِيقٌ بِالْمِلْكِ.
وَالتَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ فَصَحَّتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَالْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ طَلُقَتْ.
وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُبَانَةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، وَلَكِنْ تَبْطُلُ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، وَالتَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ بَاطِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَوْ نَجَزَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقَعُ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ التَّطْلِيقَ كَلَامُهُ السَّابِقُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَ وُجُودِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَالثَّانِي أَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهُ تَنْجِيزًا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا، وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْعِنِّينَ إذَا أَجَّلَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَدْ جُنَّ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا فَاطَّرَدَ الْكَلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَلَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ فَمَا قَامَتْ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ طَالِقٌ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ شَيْءٌ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا تَعُودُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ هَلْ يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ؟ عِنْدَهُمَا يَهْدِمُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَهْدِمُ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي الثَّلَاثَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا وَهَذِهِ مُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ قَدْ سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ حَقِيقَةً، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الطَّلْقَةُ الَّتِي سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَحَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ، وَغَايَةُ الْحُرْمَةِ لَا تُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النُّصُوصُ: فَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}.
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تَقْتَضِي جَوَازَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا تَخَلَّلَهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ لَا إلَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي خُصَّتْ عَنْ النُّصُوصِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا تَحْتَهَا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَسْنُونٌ وَعَقْدٌ وَمَصْلَحَةٌ لِتَضَمُّنِهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ التَّنَاقُضِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً بِمُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُبَايَنَةِ الطِّبَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِهَذَا فُوِّضَ الطَّلَاقُ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِيَتَأَمَّلَ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى ظَنِّ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهَا حَتَّى تَزَوَّجَهَا بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ النِّفَارِ فِي طِبَاعِ الْفَحْلِ وَنِهَايَةِ الْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ طَرِيقَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي التَّجْرِبَةِ وَقَصَّرَ فِي التَّأَمُّلِ؛ فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَصْلَحَةً لِقِيَامِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دَلِيلُ أَصْلِ الْمُوَافَقَةِ وَهَاهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ كَمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ الْمَيْلُ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّفْرَةِ ثُمَّ لَمَّا حَلَّ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الْمَقَاصِدِ فَبَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هاهنا دَلَالَةً.
وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ إيَّاهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حِلٌّ جَدِيدٌ.
وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا حِلٌّ جَدِيدٌ أَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْحِلَّيْنِ حُرْمَةٌ يُجْعَلُ كَالدَّائِمِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَيَكُونُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَانَ الثَّانِي حِلًّا جَدِيدًا، وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَنَاوَلُ طَلْقَةً ثَالِثَةً مَسْبُوقَةً بِطَلْقَتَيْنِ بِلَا فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ وَإِصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي هاهنا حَاصِلَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا، أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَنَقُولُ كَوْنُ الْإِصَابَةِ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا مُقَيَّدَةٌ بِالْحِلِّ الْقَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَطْلَقَ وَمَا قَيَّدَ، وَالْحِلُّ الْقَائِمُ إنْ بَطَلَ بِالتَّنْجِيزِ فَقَدْ وُجِدَ حِلٌّ آخَرُ؛ فَكَانَ التَّعْلِيقُ بَاقِيًا وَقَدْ وُجِدَ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْقَى تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ الْحِلِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِ، وَقَدْ بَطَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْحِلِّ الْقَائِمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ كَمَا إذَا صَارَ الشَّرْطُ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ هَذَا الْحِلِّ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَاقٌ مَانِعٌ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ، وَالْمَنْعُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِكَوْنِهِ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَذَلِكَ هُوَ الْحِلُّ الْقَائِمُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لِلْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فَيَصْلُحُ مَانِعًا، وَاَلَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي عَدَمٌ لِلْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَدَمِ فَكَانَ غَالِبَ الْعَدَمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَصْلُحُ إطْلَاقهُ مَانِعًا فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مَا لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَالِفُ أَطْلَقَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ.
وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْلِيقَاتِ هَذَا الْحِلِّ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الظِّهَارِ فَفِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ رَوَى أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ فَلَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْمِلْكِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ.
فَإِنْ كَانَ بِشَرْطَيْنِ هَلْ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَطَيْنِ جَمِيعًا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُشْتَرَطُ بَلْ الشَّرْطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلَّمَتْ زَيْدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَكَلَّمَتْ عَمْرًا طَلُقَتْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِأَنْ كَلَّمَتْ زَيْدًا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ عَمْرًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ كَلَامَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو جَمِيعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَوُجُودُ جَمِيعِ الشَّرْطِ شَرْطٌ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْجَزَاءِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ فَكَذَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيُشْتَرَطُ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ وَوَقْتِ نُزُولِ الْجَزَاءِ وَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ لَا غَيْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إمَّا لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أَوْ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ نُزُولُ الْمُعَلَّقِ وَالْمِلْكِ الْقَائِمِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا.
فَأَمَّا وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا وَقْتَ نُزُولِ الْجَزَاءِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ.
وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الدُّخُولُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا عِنْدَ الدُّخُولِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافَةً إلَى الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ الدَّارَ صَحَّتْ الْيَمِينُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ، فَإِذَا كَلَّمَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَلَّمَتْ.
وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ تَنْجِيزًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا أَيْضًا فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ.
وَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ شَرْطُهُ فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَهَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا سَوَاءٌ؛ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَتِهَا كَمَا يَقِفُ عَلَى دُخُولِهَا وَكَلَامِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ كَقَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك وَاخْتَارِي وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِمَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَمَشِيئَتُهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ مَا جُعِلَ عِلْمَنَا عَلَى الطَّلَاقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الطَّلَاقِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عِلَّةً لَا شَرْطًا، وَمَشِيئَتُهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُودُ الطَّلَاقِ، بَلْ هِيَ تَطْلِيقٌ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ مَشِيئَتُهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتُ أَنَا.
أَلَا تَرَى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: شِئْت طَلَاقَك طَلُقَتْ، كَمَا إذَا قَالَ طُلِّقْتِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ طَلَّقْتُكِ كَانَ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ بِشَرْطِ التَّطْلِيقِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا يَقَعُ الْمُنَجَّزُ ثُمَّ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ، وَالتَّعْلِيقُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَعَ هَذَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّنْجِيزَ يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ لَا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بَلْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّنْجِيزُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عِلْمًا مَحْضًا فَكَانَ شَرْطًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ هَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَوْ أَحْبَبْتُ أَوْ رَضِيتُ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتُ وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِحَقَائِقِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ، وَمَتَى عُلِّقَ بِشَيْءٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّ أَوْ أَبْغَضُ يَقَعُ الطَّلَاقُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: إنْ أَخْبَرْتِنِي عَنْ مَحَبَّتِكِ أَوْ بُغْضِكِ إيَّايَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَكِ اللَّهُ بِالنَّارِ أَوْ إنْ كُنْت تَكْرَهِينَ الْجَنَّةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّ النَّارَ أَوْ أَكْرَهُ الْجَنَّةَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّكَ بِقَلْبِي وَفِي قَلْبِهَا غَيْرُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَقَعُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْمَحَبَّةَ بِالْقَلْبِ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ لَا بِالْمُخَبِّرِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهَا مَحَبَّةٌ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ لَمَّا كَانَتَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهَا تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا دُونَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا إنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ حِضْتُ طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ وَاسْتَمَرَّ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» وَيَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ، وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا مِنْ ذَلِكَ بِاتِّصَالِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ بِهَا فَكَانَ هَذَا فِي الْحَقَائِقِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ.
وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ: إذَا صُمْت يَوْمًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَيَّ صَوْمُ كُلِّ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَكَذَا هَذَا.
وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ؛ لِأَنَّ نِصْفَ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا حِضْتِ حَيْضَةً.
وَكَذَا إذَا قَالَ: إذَا حِضْت سُدْسَ حَيْضَةٍ أَوْ ثُلُثَ حَيْضَةٍ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا حِضْت نِصْفَهَا الْآخَرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلْقَةً بِنِصْفِ حَيْضَةٍ، وَنِصْفُ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَّقَ طَلْقَةً أُخْرَى بِنِصْفِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ بِعَيْنِهَا وَهِيَ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَامِلَةٍ؛ وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا وَاتِّصَالِ الطُّهْرِ بِهَا وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا الطُّهْرُ طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضِك، فَحِينَ مَا رَأَتْ الدَّمَ تَطْلُقُ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ، وَالْحَيْضُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ شَرْطًا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت، وَكَلِمَةُ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الطَّلَاقِ مُقَارِنًا لِحَيْضِهَا فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضَتِك فَمَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الطُّهْرِ، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَتَحِيضُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ لَا الْمَوْجُودُ فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِحَيْضٍ مُبْتَدَأٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَكِ فَقَالَتْ: حِضْت؛ إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَذَّبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَا يَقَعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَثَبَتَ حَيْضُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ شَخْصٍ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا وَغَيْرَ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إذَا قَامَتْ عَلَى السَّرِقَةِ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ.
وَإِذَا قَالَ إذَا حِضْتِ فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، وَإِنْ كَذَّبَهَا لَا يَقَعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهَا عَلَى غَيْرِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَيْرِ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ وَلَدْت لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَادَتَهَا قَدْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَائِمًا، وَالْوِلَادَةُ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَفِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ النَّسَبُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوِلَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: دَخَلْتُ أَوْ كَلَّمْتُ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا دَخَلْت أَوْ كَلَّمْت إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فَكَانَ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُقْبَلُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ قَالَ إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الزَّوْجَ مَتَى أَضَافَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إلَى امْرَأَتَيْنِ وَجَعَلَ وُجُودَهُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا يُنْظَرُ إنْ كَانَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُمَا كَانَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا وُجُودُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا كَانَ وُجُودُهُ مِنْهُمَا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، إنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ إذَا وَلَدْتُمَا وَلَدًا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَحَاضَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَوِلَادَةً وَاحِدَةً مِنْ امْرَأَتَيْنِ مُحَالٌ فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ كَلَامُ الْعَاقِلِ فَيَنْصَرِفُ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى اثْنَيْنِ عَلَى إرَادَةِ وُجُودِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا مُتَعَارَفٌ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَصَاحِبِهِ: {فَنَسِيَا حُوتَهُمَا} وَإِنَّمَا نَسِيَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ فَتَاهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَالِحُ دُونَ الْعَذْبِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَعَمِّهِ: «إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْذِينِ وَالْإِقَامَةِ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ طَلَاقِهِمَا بِحَيْضَةِ إحْدَاهُمَا وَبِوِلَادَةِ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا: حِضْت إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ طَلُقَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حَيْضَتَهَا فِي حَقِّهَا ثَبَتَ بِإِخْبَارِهَا وَفِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا ثَبَتَ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا طَلُقَتْ هِيَ وَلَا تَطْلُقُ صَاحِبَتُهَا؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا ثَبَتَ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، وَلَوْ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: قَدْ حِضْتُ طَلُقَتَا جَمِيعًا، سَوَاءٌ صَدَّقَهُمَا الزَّوْجُ أَوْ كَذَّبَهُمَا أَمَّا إذَا صَدَّقَهُمَا فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا يُثْبِتُ حَيْضَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا.
وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُمَا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَيْضَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا.
وَثُبُوتُ حَيْضَتِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا يَكْفِي لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ مَعَك فَقَالَتْ: حِضْت، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ.
وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَإِذَا وَلَدْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ لَا تَطْلُقَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْحَيْضُ وَالْوِلَادَةُ مِنْهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَيْضَ أَوْ الْوِلَادَةَ إلَيْهِمَا وَيُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْحَيْضُ وَالْوِلَادَةُ، فَيُعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ أَوْ الْوِلَادَةِ مِنْهَا جَمِيعًا عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: قَدْ حِضْت، إنْ صَدَّقَهُمَا الزَّوْجُ طَلُقَتَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِوُجُودِ الْحَيْضِ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمَا مَعَ تَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضُهَا لَا حَيْضُ صَاحِبَتِهَا، وَحَيْضُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ شَطْرُ الشَّرْطِ، وَطَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ حَيْضِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ وَإِنْ صَدَّقَ إحْدَاهُمَا وَكَذَّبَ الْأُخْرَى تَطْلُقُ الْمُكَذَّبَةُ وَلَا تَطْلُقُ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ حَيْضَ الْمُكَذَّبَةِ ثَبَتَ فِي حَقِّهَا بِإِخْبَارِهَا، وَحَيْضَ الْمُصَدَّقَةِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُكَذَّبَةِ أَيْضًا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَثَبَتَ الْحَيْضَتَانِ جَمِيعًا فِي حَقِّ الْمُكَذَّبَةِ فَوُجِدَ كُلُّ الشَّرْطِ فِي حَقِّهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمُصَدَّقَةِ إلَّا حَيْضُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهَا حَيْضُ الْمُكَذَّبَةِ لِتَكْذِيبِ الزَّوْجِ الْمُكَذَّبَةَ فِي ثُبُوتِ حَيْضِهَا عِنْدَ الْمُصَدَّقَةِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّ الْمُصَدَّقَةِ شَطْرَ الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَتَيْنِ أَوْ إذَا وَلَدْتُمَا وَلَدَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ إذَا حِضْتُمَا أَوْ وَلَدْتُمَا سَوَاءٌ فَمَا لَمْ يَحِيضَا جَمِيعًا أَوْ يَلِدَا جَمِيعًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ حَيْضَتَيْنِ مِنْهُمَا وَوِلَادَةَ وَلَدَيْنِ مِنْهُمَا يَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ أَنْ تَحِيضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضَةً وَتَلِدَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا.
وَكَذَا إذَا قَالَ: إذَا دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتُمَا فُلَانًا أَوْ لَبِسْتُمَا هَذَا الثَّوْبَ أَوْ رَكِبْتُمَا هَذِهِ الدَّابَّةَ أَوْ أَكَلْتُمَا هَذَا الطَّعَامَ أَوْ شَرِبْتُمَا هَذَا الشَّرَابَ؛ فَمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مِنْهُمَا فَيُعْمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً أَوْ وَلَدْتُمَا وَلَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ ثُمَّ التَّعْلِيقُ فِي الْمُلْكِ كَمَا يَصِحُّ بِشَرْطِ الْوُجُودِ يَصِحُّ بِشَرْطِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ وَالْعَدَمُ يَصْلُحُ عِلْمًا مَحْضًا فَيَصْلُحُ شَرْطًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَقَّتَ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَ انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ أَطْلَقَ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، بَيَانُ ذَلِكَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالْإِتْيَانِ مُطْلَقًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يُثْبِتْهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّطْلِيقِ مُطْلَقًا، وَالْعَدَمُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك وَإِذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك فَإِنْ أَرَادَ بِإِذَا إنْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى بِهِ مَتَى يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَسَكَتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هِيَ بِمَعْنَى مَتَى (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، وَ{إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، وَ{إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى مَتَى، وَلَوْ قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إذَا سَكَتَ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ قَالَ: مَتَى شِئْت، وَلَوْ قَالَ إنْ شِئْت يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلشَّرْطِ لَاقْتُصِرَتْ الْمَشِيئَةُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ شِئْت، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَمَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ، تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الشَّرْطُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى ** وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ

أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَزَمَ مَا بَعْدَهُ، فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ بِهَا الْوَقْتَ يَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَسَكَتَ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى.
وَإِنْ قَالَ: أُرِيدُ بِهَا الشَّرْطَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ كَمَا فِي كَلِمَةِ إنْ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَلَا يَقَعُ مَعَ الشَّكِّ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ الْمَشِيئَةُ فِي يَدِهَا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت، وَأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَلِلشَّرْطِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الشَّرْطُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ شِئْت.
وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْوَقْتُ لَا يَبْطُلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَتَى شِئْت؛ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْبُطْلَانِ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ فَاطَّرَدَ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَعْنَى بِحَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إنْ لَمْ أُكَلِّمْ فُلَانًا سَنَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَضَتْ السُّنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَوْ يُكَلِّمَهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِيلَاءُ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْهَا أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الشَّرْعِ جَعْلُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْفَيْءِ إلَيْهَا فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْحُكْمِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ- وَهُوَ الْبِرُّ- تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ الْبِرِّ فِي الْمُدَّةِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَقْرَبْك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ الْحُكْمِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ الْحِنْثُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ وَسَنَذْكُرُهُ بِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَاحْتَجْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ».
وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ مِمَّا لَا يُشْكِلُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ تَطْلِيقٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ بِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ كَلَامٌ آخَرُ سِوَاهُ فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ تَطْلِيقًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لِلْحَالِ لِلْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ.
وَالتَّصَرُّفُ لَا يَنْعَقِدُ تَطْلِيقًا إلَّا فِي الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ هاهنا فَلَا يَنْعَقِدُ.
(وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ تَطْلِيقًا لِلْحَالِ، بَلْ هُوَ تَطْلِيقٌ عِنْدَ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عِلْمٌ عَلَى الِانْطِلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ لَا فِي الْحَالِ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: أَنْ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» وَهَذَا طَلَاقٌ بِغَيْرِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ جَعَلَهُ طَلَاقًا بَعْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُ عِلْمًا عَلَى الِانْطِلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا أَنْ يُجْعَلَ مُنْشِئًا لِلطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، أَوْ يَبْقَى الْكَلَامُ السَّابِقُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَالٌ، وَالْأَوَّلَ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الزَّوْجِ،.
وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالْحُدُوثِ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ يَمِينٌ وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ وَقَوْلُهُ: التَّنْجِيزُ لَا يُشْكِلُ مُسَلَّمٌ بَعْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ.
فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ مُشْكِلًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ: أَنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ أَجْنَبِيَّةً وَيَعْتَقِدُ حُرْمَتَهَا فَأَبْطَلَ الْحَدِيثُ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ: الْأَوَّلُ أَحَقُّ وَأَدَقُّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ عِنْدَنَا، وَلَوْ تَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ثَانِيًا لَا تَطْلُقُ.
وَكَذَا هَذَا فِي قَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ دَخَلَتْ عَلَى الْعَيْنِ وَكَلِمَةَ كُلَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَطَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ، وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَتَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِمَنْكُوحَةٍ: كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ ثَلَاثَةَ مَرَّاتٍ وَطَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَاكَ طَلَقَاتُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ الْمُبْطِلَةُ لِلْحَالِ الْقَائِمِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ مِلْكٍ حَادِثٍ وَحِلٍّ مُسْتَأْنَفٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ مَا يَمْلِكُ بِهِ مِنْ الطَّلْقَاتِ وَهَاهُنَا قَدْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَيَصِيرُ عِنْدَ كُلِّ تَزَوُّجٍ يُوجَدُ مِنْهُ لِامْرَأَةٍ قَائِلًا لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الَّتِي تَكَرَّرَ عَلَيْهَا طَلَاقُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ فَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ هَذَا نَهَارًا أَوْ إنْ كَانَ هَذَا لَيْلًا وَهُمَا فِي اللَّيْلِ أَوْ فِي النَّهَارِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْقِيقٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بِشَرْطٍ؛ إذْ الشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهَذَا مَوْجُودٌ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْهُ تَحْقِيقُ النَّفْيِ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ مُحَالٍ.
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ فَالزَّوْجُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَإِمَّا أَنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي يُنْظَرُ: إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ وَتَلْغُو الْإِضَافَةُ، بَيَانُهُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِهِ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ عَلَى مَا أُخْبِرَ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ إلَّا بِإِبْطَالِ الْإِسْنَادِ إلَى الْمَاضِي فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَا يَقَعُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ يَقَعُ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَار لِانْعِدَامِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ إنْشَاءَ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الطَّلَاقِ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي مُحَالٌ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ وَاقْتَصَرَ الْإِنْشَاءُ عَلَى الْحَالِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ.
وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُكِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ ثُمَّ أَضَافَ الْوَاقِعَ إلَى مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَغَتْ الْإِضَافَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَتَزَوَّجَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، وَلَوْ قَدِمَ ذِكْرَ التَّزْوِيجِ فَقَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ التَّزْوِيجِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَا يَقَعُ كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ ثُمَّ أَضَافَ الْوَاقِعَ إلَى زَمَانِ مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَتَلْغُو الْإِضَافَةُ وَيَبْقَى الْوَاقِعُ عَلَيَّ حَالِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَضَافَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ إلَى مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ لَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَطْعًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مَوْتِي.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ،؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ الْمَوْتِ فَصَارَ الْمَوْتُ شَرْطًا إذْ الْجَزَاءُ يَعْقُبُ الشَّرْطَ فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا مِلْكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَبَطَلَ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاكِ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَإِنَّ زَوْجَهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِعِتْقِ مَوْلَاهَا فَصَارَ عِتْقُ مَوْلَاهَا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ؛ وَهِيَ حُرَّةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ غَدٌ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ بِمَجِيءِ الْغَدِ فَكَانَ حَالُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاحِدًا وَهُوَ حَالُ مَجِيءِ الْغَدِ فَيَقَعَانِ مَعًا، وَالْعِتْقُ حَالَ وُقُوعِهِ يَكُونُ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَالَ وُجُودِهِ يَكُونُ مَوْجُودًا، وَالشَّيْءُ فِي حَالِ قِيَامِهِ يَكُونُ قَائِمًا وَفِي حَالِ سَوَادِهِ يَكُونُ أَسْوَدَ، فَالطَّلْقَتَانِ يُصَادِفَانِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ.
فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمَّا عُلِّقَا بِمَجِيءِ الْغَدِ وَقَعَا مَعًا، ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ.
وَكَذَا الطَّلَاقُ فَيَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ بِثِنْتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ ثَمَّةَ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالْعِتْقِ فَيَقَعُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ ضَرُورَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ يَتَعَقَّبُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُصَادِفُهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ، وَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَكُونُ وُجُوبُهَا مُقَارِنًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَكَانَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ضَرُورَةً، وَهِيَ حُرَّةٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَانَتْ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي غَدٍ صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْإِضَافَةِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ ثُمَّ إذَا جَاءَ غَدٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ وَالشَّهْرِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ وَسَكَتَ أَنَّهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مَتَى لِلْوَقْتِ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ فَكَمَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَسَكَتَ وُجِدَ هَذَا الْوَقْتُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا أُطَلِّقُكِ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: مَا دُمْتَ تَفْعَلُ كَذَا افْعَلْ كَذَا أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَفْعَلُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} أَيْ: وَقْتَ حَيَاتِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا أُطَلِّقُكِ؛ فَكَمَا فَرَغَ وَسَكَتَ تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يُطَلِّقُهَا مَوْصُولًا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ.
وَذَكَرَ الْعِبَارَتَيْنِ الْأُخْرَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ هَذِهِ التَّطْلِيقَةَ دُونَ التَّطْلِيقَةِ الْمُضَافَةِ إلَى زَمَانٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ لَا غَيْرَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا طَلَاقَ فِيهِ وَكَمَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ قَبْلَ قَوْلِهِ: طَالِقٌ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فَيَقَعُ الْمُضَافُ، وَلَنَا أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ وَقْتٌ خَالٍ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَمَّا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُوجَدْ وَقْتٌ خَالٍ عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ بِجُمْلَتِهِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَقْتٌ لَا طَلَاقَ فِيهِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُضَافُ لِانْعِدَامِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا.
وَقَالَ: عَنَيْتُ آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ.
وَقَالَ عَنَيْتُ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ بِلَا خِلَافٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْغَدَ اسْمُ زَمَانٍ؛ وَالزَّمَانُ إذَا قُرِنَ بِالْفِعْلِ يَصِيرُ ظَرْفًا لَهُ، سَوَاءٌ قُرِنَ بِهِ حَرْفُ الظَّرْفِ وَهُوَ حَرْفُ فِي أَوْ لَمْ يُقْرَنْ بِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ كَتَبْت فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ، فَكَانَ ذِكْرُ حَرْفِ الظَّرْفِ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا.
وَقَالَ: عَنَيْت آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ ظَرْفًا لَهُ يُذْكَرُ بِدُونِ حَرْفِ الظَّرْفِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ظَرْفًا لَهُ مَجَازًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ظَرْفًا لَهُ وَالْآخَرُ ظَرْفَ ظَرْفِهِ يُذْكَرُ مَعَ حُرُوفِ الظَّرْفِ، فَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا بِدُونِ حَرْفِ الظَّرْفِ فَقَدْ جَعَلَ الْغَدَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ يَبْقَى حُكْمًا وَتَقْدِيرًا فَيَكُونُ جَمِيعُ الْغَدِ ظَرْفًا لَهُ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ تَقْدِيرًا أَمَّا إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ النَّهَارِ لَا يَكُونُ كُلُّ الْغَدِ ظَرْفًا لَهُ، بَلْ يَكُونُ ظَرْفَ الظَّرْفِ، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْت آخِرَ النَّهَارِ فَقَدْ أَرَادَ الْعُدُولَ مِنْ الظَّاهِرِ فِيمَا يُتَّهَمُ فِيهِ بِالْكَذِبِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَلَمْ يَجْعَلْ الْغَدَ كَلِمَةَ ظَرْفٍ لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً، بَلْ جَعَلَهُ ظَرْفَ الظَّرْفِ وَبَيَّنَ أَنَّ الظَّرْفَ الْحَقِيقِيَّ لِلطَّلَاقِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْغَدِ.
وَذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْتُ آخِرَ النَّهَارِ فَقَدْ عَيَّنَ فَيُصَدَّقُ فِي التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ: إنْ صُمْت فِي الدَّهْرِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَصَامَ سَاعَةً يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ صُمْتُ الدَّهْرَ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِصَوْمٍ الْأَبَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ قَدْ تَعَارَضَتْ فَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ مِنْهَا احْتِيَاطًا لِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مِنْ وَجْهِ الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الظَّرْفِ لِتَأْكِيدِ ظَرْفِيَّةِ الْغَدِ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ ظَرْفُ الظَّرْفِ؛ فَتَرَجَّحَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عَلَى سَائِرِ الْأَجْزَاءِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْجَوَازِ بِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ وَجْهٍ فَيَقَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا: إنَّ دُخُولَ حَرْفِ الظَّرْفِ فِي الْغَدِ وَعَدَمَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوِمَ وَغَدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا ظَرْفًا لِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَنْ يَكُونَ الْوَقْتَانِ جَمِيعًا ظَرْفًا إلَّا عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي أَوَّلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ الْوُقُوعُ إلَى الْغَدِ لَكَانَ الظَّرْفُ أَحَدَهُمَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ، يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي الْيَوْمِ وَوَصَفَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ غَدٌ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَغَا قَوْلُهُ: غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْيَوْمِ، وَفِي الثَّانِي أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْغَدِ وَوَصَفَ الْغَدَ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَغَا قَوْلُهُ: الْيَوْمَ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: غَدًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي غَدٍ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ كُلَّمَا شِئْتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَشَأْ فَإِذَا شَاءَتْ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتِ مَشِيئَتِهَا وَوَقْتُ مَشِيئَتِهَا هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي تُوجَدُ فِيهِ مَشِيئَتُهَا فَإِذَا شَاءَتْ فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الزَّمَانُ فَيَقَعُ وَلَا يَقْتَصِرُ هَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إضَافَةٌ وَذَا تَمْلِيكٌ لِمَا نُبَيِّنُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ أَوْ خُلْعٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَلِهَذَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَثْبُتُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ خُلْعٍ وَهِيَ الْمُبَانَةُ أَوْ الْمُخْتَلِعَةُ فَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْحَقُهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْإِزَالَةِ، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ بِالْخُلْعِ وَالْإِبَانَةِ، وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ وَالْإِبَانَةُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ»؛ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ وَالْإِبَانَةِ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ إنْ كَانَ مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً- وَهُوَ الِانْطِلَاقُ وَالتَّخَلِّي وَزَوَالُ الْقَيْدِ- فَهِيَ مَحِلٌّ لِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ فِي حَالِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْقَيْدُ هُوَ الْمَنْعُ وَإِنْ كَانَ مَا لَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً- وَهُوَ زَوَالُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا- فَحِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَمْ تُوجَدْ فَكَانَتْ الْمُبَانَةُ وَالْمُخْتَلِعَةُ مَحِلَّيْنِ لِلطَّلَاقِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ:- الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْإِزَالَةِ- غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَاقِعٌ.
وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ رَاجَعَهَا لَا يَنْعَدِمُ الطَّلَاقُ، بَلْ يَبْقَى أَثَرُهُ فِي حَقِّ زَوَالِ الْمَحَلِّيَّةِ وَإِنْ انْعَدَمَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ زَوَالِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّهَا إزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهَلْ يَلْحَقُهَا؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَهِيَ أَلْفَاظٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ يَلْحَقُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي لَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَةُ لَا تَعْمَلُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكِنَايَةِ رَجْعِيٌّ فَكَانَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ فَيَلْحَقُ الْخُلْعَ وَالْإِبَانَةَ فِي الْعِدَّةِ كَالصَّرِيحِ.
وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ، وَالْوَصْلَةُ مُنْقَطِعَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَطْعُهَا ثَانِيًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْقَيْدِ وَإِزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَائِمٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ إبَانَةَ الْمُبَانِ مُحَالٌ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْإِبَانَةَ تَحْرِيمٌ شَرْعًا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُحَالٌ، وَسَوَاءٌ نَجَّزَ الْإِبَانَةَ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ أَوْ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ بَائِنٌ، وَنَوَى الطَّلَاقَ حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِ الْوَصْلَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَنْعَقِدُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَقَعُ وَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ تَنْجِيزًا عِنْدَ الشَّرْطِ تَقْدِيرًا، وَلَوْ نَجَزَ الْإِبَانَةَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّعْلِيقَ وَقَعَ صَحِيحًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ وَزَالَ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّ الْإِبَانَةَ الطَّارِئَةَ أَوْجَبَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِلْحَالِ وَبَقِيَ مِنْ وَجْهٍ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِقِيَامِ بَعْضِ آثَارِ الْمِلْكِ فَخَرَجَ التَّعْلِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِلْحَالِ بِالتَّنْجِيزِ فَبَقِيَ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ تَنْجِيزِ الْإِبَانَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْمُبَانَةِ وَتَعْلِيقِهَا أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمِلْكَ وَقْتَ التَّنْجِيزِ، وَالتَّعْلِيقُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقِيَامُهُ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ، وَزَوَالُهُ مِنْ وَجْهٍ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ وَمَا لَمْ تُعْرَفْ صِحَّتُهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي صِحَّتِهِ لَا يَصِحُّ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا بِيَقِينٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَنْجِيزُ الْإِبَانَةِ الْمُعْتَرِضَةِ يَقَعُ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ آلَى مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ فِي حُكْمِ الْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ- وَهُوَ الْبِرُّ- تَعْلِيقُ الْإِبَانَةِ شَرْعًا، وَشَرْطُ الْبِرِّ- وَهُوَ عَدَمُ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ وَقِيَامُ الْمِلْكِ- شَرْطُ صِحَّةِ الْإِبَانَةِ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْإِيلَاءِ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قُرْبَانِهَا، وَيَصِيرُ فِيهِ ظَالِمًا يَمْنَعُ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ وَلَا حَقَّ لِلْمُبَانَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ فِي الْوَطْءِ فَلَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، وَلَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا وَنَوَى الطَّلَاقَ أَوْ خَلَعَهَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبَانَةَ النَّاجِزَةَ يَلْحَقُهَا الْإِبَانَةُ بِتَعْلِيقٍ سَابِقٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ مِنْ الْمُبَانَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَالْمُحَرَّمَةُ قَدْ تَثْبُتُ بِالْإِبَانَةِ وَالْخُلْعِ السَّابِقِ وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُمْتَنِعٌ.
وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِشَرْطٍ فِي الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا حُجَّةُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَنَا بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ الْبَائِنَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ وَقَدْ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْإِبَانَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ الْمُنَجَّزَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُ حُكْمِ التَّعْلِيقِ، وَالثَّانِي أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ حُرْمَةً تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْإِبَانَةُ تُوجِبُ حُرْمَةً لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِالْإِبَانَةِ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ، وَالثَّابِتَةُ بِالظِّهَارِ أَضْعَفَهُمَا فَلَا تَظْهَرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَقْوَى بِخِلَافِ تَنْجِيزِ الْكِنَايَةِ وَتَعْلِيقِهَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ الْبَيْنُونَةِ وَزَوَالِ الْمُلْكِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَفِيمَا قُلْنَا عَمِلَ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ خَيَّرَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ تَمْلِيكٌ وَالتَّمْلِيكَ بِلَا مِلْكٍ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارِي، ثُمَّ أَبَانَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةُ زُفَرَ، وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَبَيْنَ تَعْلِيقِ الْكِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِشَرْطٍ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارِي فَقَدْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ غَدًا، وَلَمَّا أَبَانَهَا فَقَدْ أَزَالَ الْمِلْكَ لِلْحَالِ مِنْ وَجْهٍ وَبَقِيَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُلْكُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكْفِي لِلتَّمْلِيكِ وَيَكْفِي لِلْإِزَالَةِ كَمَا فِي الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُطْلَقِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُمَا كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ التَّنْجِيزَ يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الِاخْتِيَارِ لَا جَانِبُ التَّنْجِيزِ، وَالتَّعْلِيقُ يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْيَمِينِ لَا جَانِبُ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّنْجِيزِ وَشَاهِدَانِ بِالِاخْتِيَارِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فَالضَّمَانُ عَلَى شَاهِدَيْ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى شَاهِدَيْ التَّنْجِيزِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شُهُودُ الْيَمِينِ لَا شُهُودُ الدُّخُولِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّنْجِيزِ هُوَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ لَا تَخْيِيرُ الزَّوْجِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ اخْتِيَارِهَا، وَهِيَ مُبَانَةٌ وَقْتَ اخْتِيَارِهَا فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّعْلِيقِ هُوَ الْيَمِينُ لَا الشَّرْطُ يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ الْيَمِينِ لَا وَقْتَ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَالزَّوْجِيَّةُ قَدْ انْقَطَعَتْ بِالْإِبَانَةِ وَالْخُلْعِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ لَا يُتَصَوَّرُ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالطَّلَاقِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَالثَّابِتُ بِالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ الْأَضْعَفُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِحَالٍ؟ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمَنْكُوحَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا وَجَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ لِظُهُورِ حُكْمِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ.
وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، كَمَا لَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الطَّلَاقِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ وَقَدْ زَالَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِلِحَاقِهَا فِي بِدَارِ الْحَرْبِ فَصَارَتْ كَالْمُنْقَضِيَةِ الْعِدَّةَ، فَإِنْ عَادَتْ قَبْلَ الْحَيْضِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وَهُوَ اللَّحَاقُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ عَادَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْعِدَّةِ كَمَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ بِلِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَتْ كَالْحَرْبِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَالْحَرْبِيَّةِ فَبَطَلَتْ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهَا أَصْلًا فَلَا تَعُودُ بِعَوْدِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ عَدَدُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ إنْ أُوقِعَ مُجْتَمِعًا يَقَعُ الْكُلُّ وَإِنْ أُوقِعَ مُتَفَرِّقًا لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ إذَا كَانَ مُجْتَمِعًا فَقَدْ صَادَفَ الْكُلُّ مَحِلَّهُ- وَهُوَ الْمِلْكُ- فَيَقَعُ الْكُلُّ.
وَإِذَا كَانَ مُفْتَرِقًا فَقَدْ بَانَتْ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ صَادَفَهَا وَلَا مِلْكَ وَلَا عِدَّةَ فَلَا يَقَعُ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً وَيَلْغُو قَوْلُهُ: ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ كَلَامٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَدْ سَبَقَ الْعَدَدُ فِي الذِّكْرِ فَيَسْبِقُ فِي الْوُقُوعِ فَبِينَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَالْعَدَدُ يُصَادِفُهَا بَعْدَ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْعَدَدَ هُوَ الْوَاقِعُ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَقَدْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ رُبَّمَا يُعَلِّقُ كَلَامَهُ بِشَرْطٍ أَوْ بِصِفَةٍ إلَى وَقْتٍ أَوْ يُلْحِقُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَيَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ صَارَ الْكُلُّ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ الْكُلُّ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَا يَتَقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الْعَدَدُ وَذَلِكَ وُجِدَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى وُجُودِ آخِرِهِ الْمُغَيِّرِ لَهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَوَّلِهِ حُكْمٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ التَّطْلِيقِ عِنْدَ وُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعَدَمِ الْمَحِلِّ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ وَقَعَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يُفْصَلُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ فِي الْوُقُوعِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا لَا تَظْهَرُ فِي التَّنْجِيزِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَقَعُ إلَّا بَائِنًا سَوَاءً وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ أَمْ لَمْ يَصِفْهُ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ إنَّهُ لَا يَتَنَجَّزُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالشَّرْطِ لَا يَقَعُ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ حَائِلًا بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالشَّرْطِ فَلَا يَمْنَعُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَقَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَيْنِ مَعًا فَيَقَعَانِ مَعًا كَمَا لَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا إيقَاعُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْحَالِ وَإِضَافَةُ طَلْقَةٍ أُخْرَى إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً وَلَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْأُخْرَى إلَى الْمَاضِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَأَعْقَبَهَا بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى فَوَقَعَتْ الْأُولَى وَلَغَتْ الثَّانِيَةُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ.
وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَرَّرَ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ نَجَّزَ أَوْ عَلَّقَ.
فَإِنْ كَرَّرَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَجَّزَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ؛ يَقَعُ الْأُولَى وَيَلْغُو الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مُتَفَرِّقًا أَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ كَلَامٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ مُتَفَرِّقًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعًا مُتَفَرِّقًا فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا فَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِالْأُولَى، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يُصَادِفُهَا وَلَا مِلْكَ وَلَا عِدَّةَ فَيَلْغُوَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ خَبَرٌ لَا مُبْتَدَأَ لَهُ فَيُعَادُ الْمُبْتَدَأُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ.
وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ فَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَالْأُولَى يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ الصَّحِيحِ وَهُوَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ فِي الْمِلْكِ، وَالثَّانِي يَنْزِلُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنَّهُ إيقَاعٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَقَدْ صَادَفَ مَحِلَّهُ- وَهُوَ الْمَنْكُوحَةُ- فَيَقَعُ وَيَلْغُو الثَّالِثُ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِالْإِيقَاعِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَتْ الدَّارَ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهِيَ فِي مُلْكِهِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ، وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا؛ فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يَنْزِلَانِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ صَحِيحٌ لِمُصَادَفَتِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنْ أَخَّرَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَالْأَوَّلُ يَنْزِلُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ تَامٌّ صَادَفَ مَحِلَّهُ، وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِالْأُولَى فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِلْحَالِ وَيَتَعَلَّقُ الثَّالِثُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَدْ صَادَفَ مَحِلَّهُ فَوَقَعَ لِلْحَالِ، وَالثَّالِثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ فَتَعَلَّقَ بِهِ لِحُصُولِ التَّعْلِيقِ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَصَادَفَ التَّعْلِيقُ مَحِلَّهُ فَصَحَّ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ كَرَّرَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَإِنْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا لِوُجُودِ حُرُوفٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَالْفَاءَ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّعْقِيبِ.
وَوُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْأَوْلَى يَمْنَعُ مِنْ تَرْتِيبِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ الثَّلَاثُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فِي الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَضْعَيْنِ عَيْنًا، إمَّا الْقِرَانُ وَإِمَّا التَّرْتِيبُ فَإِنْ كَانَ الْوُقُوعُ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ فَإِمَّا أَنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ عَلَى الْجَزَاءِ وَإِمَّا أَنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ فَإِنْ قَدَّمَهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ، فَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيّ فَتَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَلَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْهَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ قَدِمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ جَمَعَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ- وَهُوَ الْوَاوُ- وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لُغَةً وَشَرْعًا: أَمَّا اللُّغَةُ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَزَيْدٌ وَزَيْدٌ، وَقَوْلُهُ: جَاءَنِي الزَّيْدُونَ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَكَذَا الْفُضُولِيُّ إذَا زَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَفُضُولِيٌّ آخَرُ زَوَّجَ أُخْتَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَبَلَغَهُ النِّكَاحَانِ فَقَالَ أَجَزْتُ نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ النِّكَاحَانِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَزْت نِكَاحَهُمَا فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَوْ جَمَعَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَوَقَعَ الثَّلَاثُ سَوَاءً دَخَلَتْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ كَذَا هَذَا، وَلَا يَلْزَمُ التَّنْجِيزُ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَلَوْ ذَكَرَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ وَالْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إذَا صَحَّ الْعَطْفُ وَالْجَمْعُ فِي التَّنْجِيزِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ فَامْتَنَعَ وُقُوعُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِانْعِدَامِ مَحِلِّ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ قَدْ صَحَّ، وَصَحَّ التَّكَلُّمُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ بَعْدَ التَّعْلِيقِ فَصَحَّ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَإِذَا صَحَّ التَّكَلُّمُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ صَارَ التَّكَلُّمُ بِهِ كَالتَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إيقَاعُ الثَّلَاثِ مُتَفَرِّقًا فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيقَاعَ إنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا يَكُونُ بِالْوُقُوعِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى حَسَبِ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ هُوَ كَلَامُهُ السَّابِقُ إذْ لَا كَلَامَ مِنْهُ سِوَاهُ، وَكَلَامُهُ مُتَفَرِّقٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ كَلَامٌ تَامٌّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ تَابِعًا فَيَكُونُ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مُتَفَرِّقًا ضَرُورَةً فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَدُخُولُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَقِيبَهُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي التَّنْجِيزِ إلَّا وَاحِدَةٌ لِكَوْنِ الْإِيقَاعِ مُتَفَرِّقًا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ أُوقِعَ مُتَفَرِّقًا فِي الْحَالِ فِي زَمَانِ بَعْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا:
إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَدَخَلَتْهَا إنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا، أَوْقَعَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَوْضُوعُ الْعَدَدِ مَعْلُومٌ لُغَة أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّنْجِيزِ كَذَلِكَ؟ فَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ، وَلَا يُلْزَمُ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ ذِكْرًا لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِضَرُورَةٍ دَعَتْهُمْ إلَى ذَلِكَ؛ وَهِيَ ضَرُورَةُ تَدَارُكِ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ غَلَطًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَوَضَعُوا الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ لِتَدَارُكِ الْغَلَطِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ قَصْدِ الْحَقِّ الرَّجُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَيَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَقُولُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَضْعًا وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ مُتَفَرِّقًا لِحَاجَتِهِمْ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَهُمْ وِلَايَةُ الْوَضْعِ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لَا عِنْدَ تَقْدِيمِهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْوَضْعِ الْآخَرِ عِنْدَ التَّقْدِيمِ.
وَلَا يُلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ كَانَ الْإِيقَاعُ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا جُعِلَتْ عِلْمًا عَلَى الِانْطِلَاقِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الشَّرْطِ فَكَانَ زَمَانُ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ- وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ- وَقْتَ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا فَيَقَعُ جُمْلَةً ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ بِكُلِّ دَخْلَةٍ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ.
وَقَدْ جَعَلَ الْحَالِفُ جَزَاءَ هَذِهِ الْيَمِينِ إيقَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فلابد مِنْ تَفَرُّقِ الْإِيقَاعَاتِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقَعُ كُلُّ جَزَاءٍ فِي زَمَانٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنِصْفً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ مُتَفَرِّقًا، بَلْ مُجْتَمِعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ وَنِصْفٌ اسْمٌ وَاحِدٌ بِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ مَعْطُوفًا عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِنَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ وَلِهَذَا كَانَ فِي التَّخْيِيرِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي التَّعْلِيقِ.
وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ عِلَّةً فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ ثُمَّ تَدَارَكَ الْغَلَطَ بِإِقَامَةِ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ الْوَاحِدَةِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَالرُّجُوعُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَصَحَّ إيقَاعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيقَاعَاتِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ؛ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِصِفَةِ الْقِرَانِ وَالتَّرْتِيبِ، وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فِي الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَيَّدًا بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى الْقِرَانِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ وَجَعْلِهَا مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ مَعَ، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَنَجْعَلُهُ مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ ثُمَّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِحَرْفِ الْوَاوِ مَعَ مَا أَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّرْتِيبِ مُوَافِقٌ لِلْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ الْإِيقَاعِ مُتَفَرِّقًا حَقِيقَةً لَا مُوجَبَ حَرْفِ الْوَاوِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْقِرَانِ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّرْتِيبِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْقِرَانِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فَلَا يَثْبُتُ الْوُقُوعُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَوَقْعُ الشَّكِّ فِي ثُبُوتِهِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عَلَى الْمُقَارَنَةِ لَا يَجُوزُ عَلَى التَّرْتِيبِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحَرْفِ الْوَاوِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ لِضَرُورَةِ تَدَارُكِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ عَلَى إنْسَانٍ حَقٌّ لِاثْنَيْنِ فَيُقِرُّ بِكُلِّ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ثُمَّ يَتَذَكَّرُ فَيَتَدَارَكُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَوَقَفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ وَصَارَتْ الْجُمْلَةُ إقْرَارًا وَاحِدًا لَهُمَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَأْخِيرِ الشَّرْطِ فِي الطَّلَاقِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا مُنْعَدِمَةٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ.
وَلَوْ عَلَّقَ بِحَرْفِ الْفَاءِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، فَجَعَلَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ حَرْفَ الْفَاءِ هاهنا كَحَرْفِ الْوَاوِ وَأَثْبَتَا الْخِلَافَ فِيهِ.
وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ جَعَلَهُ مِثْلَ كَلِمَةِ بَعْدَ وَعَدَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ عَلَاءُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّعْقِيبِ وَوُقُوعُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَقُّبِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وَالثَّانِي يَقَعُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّالِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَاوَ وَلَا الْفَاءَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا وَدَخَلَتْ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّارَ نَزَلَ الْمُعَلَّقُ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ أَنْ رَاجَعَهَا نَزَلَ الْمُعَلَّقُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّعَاقُبِ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَرْفِ الْوَاوِ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ عَطْفَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّ ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ الْوُقُوعُ بَعْدَ الشَّرْطِ يَكُونُ عَلَى التَّعَاقُبِ بِمُقْتَضَى حَرْفِ ثُمَّ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَيُعْتَبَرُ أَنَّ مَعْنَى الْعَطْفِ فِي التَّعْلِيقِ وَمَعْنَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُقُوعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَمِينٌ تَامَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ لِحُصُولِهَا فِي الْمِلْكِ، فَلَمَّا قَالَ: ثُمَّ طَالِقٌ فَقَدْ تَرَاخَى الْكَلَامُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَهُوَ التَّرَاخِي فِي نَفْسِ الْكَلَامِ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالتَّرَاخِي كَالْفَصْلِ بِالسُّكُوتِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَدَّمَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالدُّخُولِ فَمَا لَمْ تَدْخُلْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ دَخْلَةً وَاحِدَةً يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ ثَلَاثَةٌ لَهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ؛ كُلُّ يَمِينٍ إيقَاعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً- فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ- لَا مُتَفَرِّقًا فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ جُمْلَةً.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَالْأَوَّلُ يَقَعُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِلْحَالِ وَيَتَعَلَّقُ الثَّالِثُ بِالشَّرْطِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ وَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَجُعِلَ ثُمَّ عِنْدَهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا: أَنَّ ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَلَهَا مَعْنًى خَاصٌّ، وَهُوَ التَّرَاخِي فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى الْعَطْفِ فِي تَعْلِيقِ الْكُلِّ بِالشَّرْطِ كَمَا فِي حَرْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ وَهَذَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّرَاخِي وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْإِيقَاعِ فَيَقْتَضِي تَرَاخِيَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ فِي الْإِيقَاعِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: فَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَقَعَانِ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَعَلَّقَانِ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ لَا فِي الْإِيقَاعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْإِيقَاعُ، وَاعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ التَّرَاخِي دَخَلَتْ عَلَى الْإِيقَاعِ وَالتَّرَاخِي فِي الْإِيقَاعِ يُوجِبُ التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ،.
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِتَرَاخِي الْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخِي الْإِيقَاعِ فَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِلَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَقْتَضِيهِ الْعِلَّةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ- أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ- إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، مَوْصُولًا أَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ فِي الْقَضَاءِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالطَّلَاقِ فَيَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ فَيَمْنَعُ التَّعْلِيقَ كَمَا لَوْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ السُّعَالِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يُصَدَّقُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ.
وَكَذَا إذَا تَنَحْنَحَ مِنْ غَيْرِ سُعَالٍ غَشِيَهُ أَوْ تَسَاعَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَنَحْنَحَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَسَاعَلَ فَقَدْ قَطَعَ كَلَامَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ بِالسُّكُوتِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَعِشْرِينَ أَوْ وَاحِدَةً وَثَلَاثِينَ أَوْ وَاحِدَةً وَأَرْبَعِينَ أَوْ قَالَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ أَوْ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَوْ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ وَقَعَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَدَدًا عَلَى عَدَدٍ، فَوُقُوعُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِي كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ فَطَالِقٌ، وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ فِي الْوَضْعِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وُضِعَ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَلَا يَفْصِلُ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ أَوْ قَالَ: اثْنَيْ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْ وَثَلَاثِينَ أَوْ اثْنَيْ وَأَرْبَعِينَ أَنَّهُ ثَلَاثٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ اثْنَتَانِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى عَشْرَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاللَّفْظِ الْمُعْتَادِ فَيَقُولُ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَإِذَا لَمْ يَقُلْ يُعْتَبَرُ عَطْفًا عَلَى الْوَاحِدِ فَكَانَ إيقَاعُ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الْوَاحِدِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ فَطَالِقٌ أَوْ ثُمَّ طَالِقٌ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَى وَعَشْرَةَ أَنَّهُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُنَا أَحَدَ عَشَرَ فَكَانَ مِثْلَهُ.
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَمِائَةً أَوْ وَاحِدَةً وَأَلْفًا كَانَ وَاحِدَةً كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مِائَةً وَوَاحِدَةً وَأَلْفًا وَوَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فَإِذَا قَدَّمَ الْوَاحِدَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْمُعْتَادَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عَدَدًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ عَطْفًا فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ: وَاحِدَةً وَمِائَةً تَقَعُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي ذَلِكَ مُعْتَادٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْعَادَةِ مِائَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَمِائَةً عَلَى السَّوَاءِ؟ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفًا يَقَعُ اثْنَتَانِ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَكَانَ هَذَا اسْمًا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ، فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ تَطْلِيقَتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَوَاحِدَةً يَقَعُ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَاحِدَةٌ، لَهُ أَنَّ التَّكَلُّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ الْعَادَةُ قَوْلُهُمْ وَاحِدَةً وَنِصْفًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الْمُعْتَادِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عَدَدًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ عَطْفًا، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الِاسْتِعْمَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَادٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: وَاحِدَةً وَنِصْفًا وَوَاحِدَةً عَلَى السَّوَاءِ.
وَمِنْهَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ أَضَافَ الزَّوْجُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنَا مِنْك طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِضَافَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَصِحُّ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الزَّوْجَ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَحِلِّهِ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ.
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ مَحِلَّ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ رَفْعُ الْقَيْدِ وَالرَّجُلُ مُقَيَّدٌ إذْ الْمُقَيَّدُ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالزَّوْجُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَعَنْ التَّزَوُّجِ بِأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَكَانَ مُقَيَّدًا فَكَانَ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ جَانِبِهِ كَذَا هَذَا، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَطْلِيقِهِنَّ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ وَتَطْلِيقُ نَفْسِهِ تَرْكٌ لِتَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ، وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ عَدَمِ الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ»، نَهَى عَنْ التَّطْلِيقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الزَّوْجَةِ وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّطْلِيقُ مَنْهِيًّا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَيْهَا ثُمَّ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي التَّطْلِيقِ الْمُضَافِ إلَى الزَّوْجَةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} وقَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَقِيَ التَّطْلِيقُ الْمُضَافُ إلَى الزَّوْجِ عَلَى أَصْلِ النَّهْيِ، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَوِّعًا، لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّا مِنْك طَالِقٌ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إنْشَاءً- وَهُوَ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ- وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ.
وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ مُحَالٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ إنَّمَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ- وَهُوَ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ يُرِيبُ فَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إلَيْهَا، وَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثِقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ هُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ الْحَاجِزُ وَالزَّوْجُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَالْمَمْلُوكُ لابد لَهُ مِنْ مَالِكٍ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَالِكُهَا؛ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُنْطَلِقَةٍ لِثُبُوتِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ أَنَّهُ مُمْكِنٌ لِعَدَمِ الِانْطِلَاقِ قَبْلَهُ، بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا زَالَتْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَزُولُ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةً؛ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَالِ شَيْءٍ بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ حَلَالًا لِمَنْ هُوَ حَرَامٌ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: الزَّوْجُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَنَعَمْ لَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى لَوْ تَزَوَّجَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ؟ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ الْإِضَافَةُ.
وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْمُعَيَّنَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ: لَمْ يَصْلُحْ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ فَلَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ إذْ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ.
وَكَذَا لَمْ يَصْلُحْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَذَا الطَّلَاقُ.
وَأَمَّا عُمُومَاتُ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَوْلِهِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وَقَوْلِهِ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ طَلَاقٍ وَطَلَاقٍ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمُعَيَّنِ وَالْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِشَرْطِ الْبَيَانِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ؟ فَكَذَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا تَكُونُ الْمَجْهُولَةُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ.
وَكَذَا الْإِجَارَةُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْهُولَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمُبَيَّنَةِ لَا فِي الْمَجْهُولَةِ، عَلَى أَنَّا إنْ قُلْنَا بِالْوُقُوعِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فَهَذِهِ جَهَالَةٌ يُمْكِنُ رَفْعُهَا بِالْبَيَانِ، فَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ خَطَرًا لِجَهَالَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ خَطَرَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ جَرَيَانَ الْجَهَالَةِ؟ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ.
وَكَذَا إذَا بَاعَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ جَازَ، فَالطَّلَاقُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي احْتِمَالِ الْخَطَرِ فَوْقَ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ خَطَرَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ، وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؟ فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُقَارِنَةً أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْمُقَارِنَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ فَالطَّارِئُ لَأَنْ لَا يَرْفَعَ الْإِضَافَةَ الصَّحِيحَةَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الْإِضَافَةُ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَوْ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ مِنْهَا أَوْ شَائِعٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ مِنْهَا كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْفَرْجِ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا رَأْسًا مِنْ الرَّقِيقِ وَكَذَا وَكَذَا رَقَبَةً.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَالْمُرَادُ بِهَا الْجُمْلَةُ، وَفِي الْخَبَرِ «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ»، وَالْوَجْهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} أَيْ إلَّا هُوَ، وَمَنْ كَفَلَ بِوَجْهِ فُلَانٍ يَصِيرُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّ قِوَامَ النَّفْسِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الرُّوحَ تُسَمَّى نَفْسًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، وَلَوْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى دُبُرِهَا لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الدُّبُرَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْفَرْجِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا بِأَنْ قَالَ: نِصْفُكِ طَالِقٌ أَوْ ثُلُثُكِ طَالِقٌ أَوْ رُبْعُك طَالِقٌ أَوْ جُزْءٌ مِنْك، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ مَحِلٌّ لِلنِّكَاحِ حَتَّى تَصِحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهِ فَيَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ، وَإِنَّهُ شَائِعٌ فِي جُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ بِعُذْرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ لِمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِالْجُزْءِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيَزُولَ ضَرُورَةً.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَنَحْوِهَا؛ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقَ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَقَعُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَدَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا كَمَا لَوْ أَضَافَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِنْهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَدَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ أَنَّ الْبَدَنَ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْهَا الْيَدُ فَكَانَتْ الْيَدُ بَعْضَ الْجُمْلَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى بَعْضِ الْبَدَنِ إضَافَةٌ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَطْلِيقِ النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ جَمْعُ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا.
وَالْأَمْرُ بِتَطْلِيقِ الْجُمْلَةِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ تَطْلِيقِ جُزْءٍ مِنْهَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِتَطْلِيقِ جُمْلَةِ الْبَدَنِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: يَدُكِ طَالِقٌ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى مَا لَيْسَ مَحَلَّ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى خِمَارِهَا، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى يَدِهَا، وَيَدُهَا لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلطَّلَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ مَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَحِلًّا لِلْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخُ مَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ مَحَلَّ الطَّلَاقِ مَحَلُّ حُكْمٍ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ زَوَالُ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَقَيْدُ النِّكَاحِ ثَبَتَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَنِ لَا فِي الْيَدِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أُضِيفَ إلَى جُمْلَةِ الْبَدَنِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَيْدُ الثَّابِتُ فِي جُمْلَةِ الْبَدَنِ فِي الْيَدِ وَحْدَهَا فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَدِ وَحْدَهَا إضَافَةً إلَى مَا لَيْسَ مَحِلَّ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ.
وَكَذَا يُقَالُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْبَدَنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ- وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ- فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، أَوْ يُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ كَمَنْ قَطَعَ حَبْلًا مَمْلُوكًا لَهُ تَعَلَّقَ بِهِ قِنْدِيلُ غَيْرِهِ وَهَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي الْجُزْءِ الْمُعَيَّن مَقْصُورًا عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِبَاقِي الْبَدَنِ فَكَانَ بَقَاءُ النِّكَاحِ مُفِيدًا، لَكِنْ لَا قَائِلَ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْيَدُ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ فَنَقُولُ: إنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَلِمَ يَكُنْ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْجُزْءَ إذَا كَانَ شَائِعًا فَمَا مِنْ جُزْءٍ يُشَارُ إلَيْهِ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْبَدَنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَمِنْهَا قَبُولُ الْعِوَضِ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْخُلْعِ وَفِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَائِلٌ آخَرُ سِوَاهَا، أَمَّا الْخُلْعُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخُلْعَ نَوْعَانِ: خُلْعٌ بِعِوَضٍ، وَخُلْعٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَمَّا الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَنَحْوُ أَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا.
وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ- خِلَافًا لِزُفَرَ- بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالْعِوَضِ لِمَا ذَكَرْنَا بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ عِوَضًا.
وَاسْمُ الْخُلْعِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى النَّوْعِ الثَّانِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَشَرْعِيَّةً حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْلَعْ امْرَأَتِي فَخَلَعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَصْلُحْ.
وَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يَصْدُقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلَالَةُ حَالٍ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ مِنْ غَضَبٍ أَوْ ذِكْرِ طَلَاقٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ التَّعْوِيضِ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ فلابد مِنْ النِّيَّةِ لِيَنْصَرِفَ إلَى الطَّلَاقِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذُكِرَ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ذِكْرِ الْعِوَضِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ إلَّا لِلطَّلَاقِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا النَّوْعِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّتِهِ،، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِ الْعِوَضِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ مَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا مِنْ الْعِوَضِ، وَمَا لَا يَحِلُّ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّةِ الْخُلْعِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ طَلَاقٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ مِثْلِ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ فَسْخٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَعُودُ إلَيْهِ بِطَلَاقَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً غَلِيظَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِثَلَاثٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}.
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فَلَوْ جَعَلَ الْخُلْعَ طَلَاقًا لَازْدَادَ عَدَدُ الطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْفَسْخِ كَالْفُرْقَةِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَخِيَارِ الْعَتَاقَةِ وَالرِّدَّةِ وَإِبَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ دَلِيلُ الْفَسْخِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ، وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ حَصَلَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَتَكُونُ طَلَاقًا.
وَقَوْلُهُ: الْفُرْقَةُ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الْفَسْخِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ ضَرُورَةً لَا مَقْصُودًا إذْ النِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَقْصُودًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي لِلْجَوَازِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحُرَّةِ وَقِيَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْأَمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي وَأَلْحَقهُ بِالْعَدَمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ تَنْدَفِعُ بِالطَّلَاقِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَانْفِسَاخُهُ ضَرُورَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ مَقْصُودًا فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي فِي حَقِّ الْفَسْخِ مَقْصُودًا، وَالِانْفِسَاخُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَاضِعِ مَا ثَبَتَ مَقْصُودًا بَلْ ضَرُورَةً وَلَا كَلَامَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ لَا عَلَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلْعِ وَهُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أَيْ أَخْرَجْنَا.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِهِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: خَلَعَهَا أَيْ: أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَهَذَا مَعْنَى الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَفَسْخُ النِّكَاحِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَالْإِقَالَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْخُلْعُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَعَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ فَلَمْ يَكُنْ فَسْخًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْخُلْعِ يَرْجِعُ إلَى الطَّلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِعِوَضٍ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فَلَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَلْزَمَنَا الْقَوْلُ بِتَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أَيْ: ثَلَاثًا وَبَيَّنَ حُكْمَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَلَا يَلْزَمُ مَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ طَلَاقًا شَرْعُ الطَّلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ فَنَقُولُ لَهُ كَيْفِيَّتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّهَا بَوَائِنُ عِنْدَنَا؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ الْعِوَضَ بِقَبُولِهَا فلابد وَأَنْ تَمْلِكَ هِيَ نَفْسهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ فَيَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا؛ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهَا عَنْ حِبَالَةِ الزَّوْجِ وَلَا تَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُرَاجِعُهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلَا تَتَخَلَّصُ وَيَذْهَبُ مَالُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُهَا الْعِوَضَ وَمِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ حَتَّى لَوْ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ فَقَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلَا فَسْخَهُ وَلَا نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الْقَبُولِ، وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِهَا وَلَا بِشَرْطِ حُضُورِ الْمَرْأَةِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَبَلَغَهَا فَلَهَا الْقَبُولُ، لَكِنْ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهَا مُعَاوَضَةً لِمَا نَذْكُرُ، وَلَهُ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِشَرْطٍ وَيُضِيفَهُ إلَى وَقْتٍ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا.
وَالْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ قُدُومِ زَيْدٍ وَبَعْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ قَبِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ تَطْلِيقٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، فَكَانَ قَبُولُهَا قَبْلَ ذَلِكَ هَدَرًا، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْخُلْعُ إذَا قَبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنْ الْمَرْأَةِ بِأَنْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ نَفْسِي مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ وَبِقِيَامِهِ أَيْضًا، وَلَا يَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حَتَّى لَوْ بَلَغَهُ وَقَبِلَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطٍ وَلَا يَنْضَافُ إلَى وَقْتٍ، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لَهَا بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَبِلَتْ جَازَ الشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ حَتَّى إنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ فِي الْمُدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ، وَإِنْ رُدَّتْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ شَرْطُ الْخِيَارِ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَانِبَانِ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ عِنْدَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، بَلْ هُوَ مِلْكُ الزَّوْجِ لَا مِلْكُ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَهُوَ قَوْلُهُ: خَالَعْتكِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَطْلِيقًا إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ لَا تَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَيَقِفُ الْغَائِبُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَحْتَمِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ، بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الطَّلَاقُ.
وَأَمَّا فِي جَانِبِهَا فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ فَتُرَاعَى فِيهِ أَحْكَامُ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا يَقُولَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ: إنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْفَسْخِ، وَالْخُلْعُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ عِنْدَنَا، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنْ يُحْمَلَ الْخِيَارُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ فِي عِلْمِنَا إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَلَا يُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَاقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ وَحَضْرَةُ السُّلْطَانِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْخُلْعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَيَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَوَّزُوا الْخُلْعَ بِدُونِ السُّلْطَانِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَكَذَا الْخُلْعُ.
ثُمَّ الْخُلْعُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي فِي اللُّغَةِ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَمْرُ وَالِاسْتِفْهَامُ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ الْبَيْعِ.
وَالشِّرَاءُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنْ كَانَ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ يَتِمُّ.
إذَا كَانَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا مَذْكُورًا بِلَا خِلَافٍ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقُولُ: خَلَعْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مَذْكُورًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ: خَلَعْتُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ حَتَّى يَقُولَ الزَّوْجُ خَلَعْت، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخُلْعِ بِبَدَلٍ مُتَقَوِّمٍ تَوْكِيلٌ لَهَا.
وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى الْخُلْعَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّوْعُ مُعَاوَضَةً- وَالْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْبَيْعِ-؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِلتَّنَافِي فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ وَلَا تَنَافِيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْخُلْعِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ؛ وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْخُلْعِ تَوْكِيلًا لِجَهَالَةِ الْبَدَلِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فَلَوْ تَمَّ الْعَقْدُ بِالْوَاحِدِ لَصَارَ الْوَاحِدُ مُسْتَزِيدًا وَمُسْتَنْقِصًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: أَخَلَعْتِ نَفْسَك مِنَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَتْ: خَلَعْتُ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقْبَلْ الزَّوْجُ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فَقَالَ إنْ نَوَى بِهِ التَّحْقِيقَ يَتِمُّ وَإِنْ نَوَى بِهِ السَّوْمَ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخَلَعْت نَفْسَك مِنِّي؟ يَحْتَمِلُ السَّوْمَ، بَلْ ظَاهِرُهُ السَّوْمُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَطُلِبَ مِنْكِ أَنْ تَخْلَعِي نَفْسَك مِنَى فَلَا يُصْرَفُ إلَى التَّحْقِيقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا نَوَى يَصِيرُ بِمَعْنَى التَّوْكِيلِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي؛ فَإِنْ ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا صَحَّ الْأَمْرُ وَالتَّوْكِيلُ وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْخُلْعِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: خويشتن أزمن نجر بهزاردم يابكابين وهر نيه وعدت لَهُ وَاجِب شودا ازبس طَلَاق فَقَالَتْ: خريدم فَهُوَ عَلَى هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ- بِأَنْ قَالَ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُ- لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: خويشتن ارمننجر فَقَالَتْ: خريدم وَلَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ فروختم لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ وَلَا تَطْلُقُ حَتَّى يَقُولَ الزَّوْجُ فروختم فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ لَهَا بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ: اخْلَعِي نَفْسَك مِنَى وَنَوَى الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: خَلَعْت أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهَا اخْلَعِي مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ أَمْرٌ لَهَا بِالطَّلَاقِ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ وَإِنَّهَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَالْأَمْرُ فَيُتَوَلَّى الْخُلْعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَوْلُهُ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَكِ خويشتن ازمننجر أَمْرٌ بِالْخُلْعِ بِعِوَضٍ، وَالْعِوَضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ.
وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: ابْتَعْتِ نَفْسَك مِنِّي؟، فَإِنْ ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ: بِمَهْرِك وَنَفَقَةِ عِدَّتِك فَقَالَتْ: ابْتَعْتُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: يَتِمُّ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْأَمْرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا بِالْأَمْرِ صَارَتْ وَكِيلَةً إذْ الْأَمْرُ بِالْخُلْعِ تَوْكِيلٌ بِهِ- إذَا كَانَ الْبَدَلُ مُقَدَّرًا- وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْخُلْعِ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَمْرُ هاهنا فَلَمْ يُوجَدْ التَّوْكِيلُ فَيَبْقَى الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُسْتَزِيدًا وَمُسْتَنْقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ بِأَنْ قَالَ لَهَا: ابْتَعْتِ نَفْسَكِ مِنِّي؟ فَقَالَتْ: ابْتَعْت لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ فِي الْأَمْرِ فَلَأَنْ لَا يَتِمَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَبُولُ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ لِأَنَّهَا لَوْ قَبِلَتْ بِنَفْسِهَا يَلْزَمُهَا الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمْلِكَ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى لِإِنْسَانٍ شَيْئًا، عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَجْنَبِيَّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ بِمُقَابَلَةِ الْبَدَلِ شَيْئًا وَالْأَجْنَبِيُّ لَا، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا قَالَ لِلزَّوْجِ اخْلَعْ امْرَأَتَكَ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك أَلْفًا أَوْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ هُوَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ، أَوْ عَبْدِي هَذَا، أَوْ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَفَعَلَ صَحَّ الْخُلْعُ وَاسْتَحَقَّ الْمَالَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وُقِفَ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ.
وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ- وَهِيَ صَغِيرَةٌ- عَلَى مَا لِهَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ رَأْسًا أَوْ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْبَدَلُ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَوَاقِعٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْخِلَافِ ابْتِدَاءُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ: رِوَايَتَانِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالصَّغِيرَةُ تَتَضَرَّرُ بِهَا، وَتَصَرُّفُ الْإِضْرَارِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالْهِبَةِ وَلَا الصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ صِحَّةَ الْخُلْعِ لَا تَقِفُ عَلَى وُجُوبِ الْعِوَضِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ.
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْخُلْعَ مَتَى وَقَعَ عَلَى بَدَلٍ- هُوَ مَالٌ- يَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِقَبُولٍ يَجِبُ بِهِ الْمَالُ.
وَقَبُولُ الْأَبِ لَا يَجِبُ بِهِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبُولِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهَا فَإِنْ خَلَعَهَا الْأَبُ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْخُلْعِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ الْبَدَلِ قَبُولَ مَا يَصْلُحْ بَدَلًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْقَبُولِ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَبُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الْعِوَضِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا قَبُولُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْعِوَضِ كَمَا هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِهِ فَهُوَ شَرْطُ لُزُومِ الْعِوَضِ مِنْ جَانِبِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ فِي الْخُلْعِ مِنْ مَهْرِهَا الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَالًا آخَرَ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجُعْلِ فَهَذَا الشَّرْطُ يَعُمُّ الْعِوَضَيْنِ جَمِيعًا، وَالثَّانِي يَخُصُّ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ بَابَ الْخُلْعِ أَوْسَعُ إذْ هُوَ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا النِّكَاحُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، لِذَلِكَ اُخْتُصَّ وُجُوبُ الْمُسَمَّى فِيهِ بِشَرْطٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي النِّكَاحِ لِوُجُوبِ الْمُسَمَّى وَهُوَ تَسْمِيَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْخُلْعِ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَفَاحِشَةً فَإِنْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ وَجَبَ الْعَمَلُ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ.
وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا يَجِبُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَقْتَ الْخُلْعِ أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا أَصْلًا وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ.
الْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ: إنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَهْرِ أَعْنِي أَنَّ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ إنْ كَانَ مِمَّا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ إلَى الْمَرْأَةِ فَفِي الْخُلْعِ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ إلَى الزَّوْجِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْوَسَطِ مِنْهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَتِهِ فَفِي الْخُلْعِ تُتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ، كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ فِي أَحَدِهِمَا عِوَضٌ عَنْهُ ثُبُوتًا وَفِي الْآخَرِ سُقُوطًا فَيَعْتَبِرُ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا يُوجَبُ الْوَسَطُ مِنْهُ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ وَسَطًا يُعْرَفُ بِهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَبَيَانُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي مَسَائِلَ إذَا خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ الْجُعْلِ، وَلَا يَرُدُّ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا.
أَمَّا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ فَلِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ مُعَلَّقٌ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ مَا جُعِلَ عِوَضًا ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَمَّى مِمَّا يَصْلُحُ عِوَضًا أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَقَدْ قَبِلَتْ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْعِوَضَ الْمَذْكُورَ فَقَبِلَتْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ الطَّلَاقُ إذَا قَبِلَتْ كَذَا هَذَا.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، وَالطَّلَاقَ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ لَيْسَتْ بِمَالِ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَلَا تَصْلُحُ عِوَضًا، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَصْلُحَا عِوَضًا فِي حَقِّهِمْ فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا خَلَعَهَا عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْفُرْقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ إسْقَاطُ الْمِلْكِ، وَإِسْقَاطُ الْمِلْكِ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِعْتَاقِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا أَصْلًا أَوْ مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْإِسْقَاطِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا شَيْئًا، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ مُتَقَوِّمَةً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَعِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ تَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا أَخَذَتْ حُكْمَ التَّقَوُّمِ فِي بَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ احْتِرَامًا لَهَا تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِهِ فَجُعِلَتْ مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا صِيَانَةً لَهَا عَنْ الِابْتِذَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ لَا عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمُلْكِ؛ لِأَنَّ بِالْخُرُوجِ يَزُولُ الِابْتِذَالُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقَوُّمِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، وَجُعِلَ الْفَرْقُ بِمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْخُلْعِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يُشْرَع إلَّا بِعِوَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ النِّكَاحِ وَالْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فَالْتَحَقَ ذَلِكَ بِالْعَدَمِ وَوَجَبَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَأَمَّا الْخُلْعُ فَالْعِوَضُ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهِ لُزُومُ الْعِوَضِ.
وَكَذَا النِّكَاحُ تَمْلِيكُ الْبُضْعِ بِعِوَضٍ، وَالْخُلْعُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمُ التَّقَوُّمِ شَرْعًا لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ، وَالْخُلْعُ إبْطَالُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ فَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّقَوُّمِ فِيهِ.
وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى شَيْءٍ- أَشَارَتْ إلَيْهِ- مَجْهُولٍ فَقَالَتْ: عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِي أَوْ نَعَمِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَلَى مَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ لَبَنٍ أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَلَى مَا فِي نَخْلِي أَوْ شَجَرِي مِنْ ثَمَرٍ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ وَكَذَا فِي الْخُلْعِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ.
وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّ بَابَ الْخُلْعِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى لَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ لَهُ آبِقٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؟ وَلَوْ زَوَّجَهَا عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَوْجُودٌ كَمَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ذَاكَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَهَذَا مَوْجُودٌ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ.
وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطٌ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَا اسْتَحَقَّتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَدْ غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَصَارَتْ مُلْتَزِمَةً تَسْلِيمَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ضَامِنَةً لَهُ ذَلِكَ، وَالزَّوْجُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ لِعَدَمِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْقِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ لِجَهَالَتِهَا وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبُضْعِ لِمَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا؛ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا قَوَّمَ الْبُضْعَ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ: عَلَيَّ مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ إنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَتَاعٌ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَلْزَمُهَا ضَمَانُ الْغُرُورِ- وَهُوَ رَدُّ الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ- لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَيَّ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِي أَوْ ضُرُوعِهَا أَوْ عَلَيَّ مَا فِي نَخْلِي أَوْ شَجَرِي وَلَمْ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ، لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَيْسَتْ بِمُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِانْعِدَامِ تَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ تَصِرْ بِذِكْرِهِ غَارَّةً لِزَوْجِهَا بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي غَرَّ نَفْسَهُ، وَالرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَلَا غُرُورَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ مِنْك عَلَى مَا تَلِدُ غَنَمِي أَوْ تَحْلُبُ أَوْ بِثَمَرِ نَخْلِي أَوْ شَجَرِي أَوْ عَلَى مَا أَرِثُهُ الْعَامَ أَوْ أَكْسِبُهُ أَوْ مَا أَسْتَغِلُّ مِنْ عَقَارِي، فَقَبِلَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا اسْتَحَقَّتْ مِنْ الْمَهْرِ وَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ وَأَثْمَرَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ.
أَمَّا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ عِوَضًا وَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ الْمُسْتَحَقِّ؛ فَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى؛ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا وَقْتَ الْخُلْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ وَوَرَدَ بِتَحَمُّلِ الْجَهَالَةِ إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَعْقُودُ فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي احْتِمَالِ السَّعَةِ وَالضِّيقِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسٍ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولَ الْقِيمَةِ وَلَهُ مَا فِي يَدِهَا مِنْ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِاسْمِ الْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَ فَصَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَعَلَيْهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ سَمَّتْهُ ثَلَاثَةٌ وَزْنًا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعَدَدًا فِي الْفُلُوسِ لِوُجُودِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْفُلُوسَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ، وَالْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ.
وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا وَيَتَعَيَّنُ الْمُسَمَّى كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ فَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا، وَاعْتُبِرَ الْمُسَمَّى مَعَ جَهَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَحُمِلَ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ مُتَقَوِّمَةٌ.
وَكَذَا الْعَبْدُ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْمُسَمَّى الْمَجْهُولِ، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي يَدِي، وَلَمْ تُزِدْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ فَصَحَّتْ وَاسْتُحِقَّ عَلَيْهَا مَا فِي يَدِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا عَامَّةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَمْ تُوجَدْ تَسْمِيَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا فِي يَدِهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي يَدِهَا شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ وُجُوبِ شَيْءٍ فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ الْأَمَةُ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى جُعْلٍ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْجُعْلِ حَتَّى تُعْتَقَ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ فَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَا جُعِلَ عِوَضًا وَقَدْ وُجِدَ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْجُعْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ فَلِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَوْجُودًا وَهُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا وَهِيَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُجُوبُ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَزِمَهَا الْجُعْلُ وَتُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُبَاعُ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى جُعْلٍ؛ يَجُوزُ الْخُلْعُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَتَأَخَّرُ الْجُعْلُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ وَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا تَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهَا.
وَلَوْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى رَضَاعِ ابْنِهِ مِنْهَا سَنَتَيْنِ جَازَ الْخُلْعُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَرْضِعَهُ سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا قَبْلَ أَنْ تُرْضِعَهُ شَيْئًا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِقِيمَةِ الرَّضَاعِ لِلْمُدَّةِ، وَإِنْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ جُعَلًا فِي الْخُلْعِ، وَهَلَاكُ الْوَلَدِ قَبْلَ الرَّضَاعِ كَهَلَاكِ عِوَضٍ اخْتَلَعَتْ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَرْجِعُ إلَى قِيمَتِهِ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ تَمَامِ الرَّضَاعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَ لَهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ وَلَكِنْ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا مُتَبَرِّعَةٌ فِي قَبُولِ الْبَدَلِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا.
وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ بَعْدَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعٌ بِتَسْمِيَةٍ فَاسِدَةٍ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَالْخَطَرِ أَيْضًا فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعٌ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ وَلَا يَقَعُ إلَّا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَادَةً، فَكَانَ الْخُلْعُ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعًا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَقَدْ غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْقَاقِ مَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ فَتَرْجِعُ إلَى مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ الْمَهْرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَى الزَّوْجِ فَإِنْ حَكَمَ بِمِقْدَارِ الْمَهْرِ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ.
وَكَذَلِكَ إنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَهُ فَهُوَ تَمَلَّكَ حَطَّ بَعْضِهِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ حَطَّ الْكُلِّ فَالْبَعْضُ أَوْلَى، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَهْرِ لَمْ تَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَيْهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِقَدْرِ الْمَهْرِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ وَكَذَلِكَ إنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا حَكَمَتْ لِنَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَهِيَ تَمْلِكُ بَذْلَ الزِّيَادَةِ وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا حَطَّتْ بَعْضَ مَا عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تَمْلِكُ حَطَّ مَا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَكَمَ بِقَدْرِ الْمَهْرِ جَازَ وَإِنْ حَكَمَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَالنُّقْصَانُ إلَّا بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ إبْطَالَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَفِي النُّقْصَانِ إبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَعَلَى الزَّوْجِ الْبَيِّنَةُ،؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَدَلِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَالزَّوْجُ يَدَّعِي عَلَيْهَا شَيْئًا وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي، فَقَالَتْ: لَا بَلْ كُنْتُ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: لَا، بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الزَّوْجَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَمْ يَصِرْ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلِي؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقَتْك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ يُسَمَّى طَلَاقًا عَلَى أَلْفٍ قَبِلَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلِي مُنَاقِضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِدُونِ الْقَبُولِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْإِيجَابِ إقْرَارًا بِالْقَبُولِ فَصَارَ الْبَائِعُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ تَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وُجُودَ شَرْطِ الْوُقُوعِ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوُقُوعَ لِإِنْكَارِهِ شَرْطَ الْوُقُوعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ قَدْرِ مَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ وَمَا لَا يَحِلُّ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النُّشُوزَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ عَلَى الْمُخْلِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} نَهَى عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا مِنْ الْمَهْرِ وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أَيْ: لَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ {إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أَيْ: إلَّا أَنْ يَنْشُزْنَ؛ نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَوْهُنَّ وَاسْتَثْنَى حَالَ نُشُوزِهِنَّ.
وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَوْهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ النُّشُوزِ مِنْهُنَّ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الدِّيَانَةِ، فَإِنْ أَخْذَ جَازَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَلَزِمَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِعِوَضٍ رَضِيَتْ بِهِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ.
وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْمُعَاوَضَةِ وَالرِّضَا فَيَجُوزُ فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا قَدْرَ الْمَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أَيْ: إلَّا أَنْ يَنْشُزْنَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ إبَاحَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَقَوْلُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}؛ قِيلَ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْأَخْذِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْإِعْطَاءِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ- وَهُوَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ- وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْهُمَا فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ مِنْ الْفِدَاءِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِأَنَّهَا أَعْطَتْ مَالَ نَفْسِهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ كَانَتْ هِيَ مَجْبُورَةً فِي دَفْعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مَعَ رَغْبَتِهَا فِي الزَّوْجِ لَا تُعْطِي إذَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً مِنْ جِهَتِهِ بِأَسْبَابٍ أَوْ مُغْتَرَّةً بِأَنْوَاعٍ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ فَكُرِهَ الْأَخْذُ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نَهَى عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ وَاسْتَثْنَى الْقَدْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا تَرْكَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ نَهْيٌ عَنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالنَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ أَنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الضَّرْبِ- الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ- بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَرُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً قَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ مَعَ كَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ قِبَلِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {فِيمَا افْتَدَتْ} قَدْرُ الْمَهْرِ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَامًّا عَرَفْنَا بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا آتَاهَا فَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} مَرْدُودًا إلَى أَوَّلِهَا فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {فِيمَا افْتَدَتْ} أَيْ: بِمَا آتَاهَا وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهُ يَحِلُّ لَهُ قَدْرُ مَا آتَاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّهَا أَعْطَتْهُ مَالَ نَفْسِهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا فَنَعَمْ لَكِنَّ ذَاكَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الزِّيَادَةَ جَائِزَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ- مِنْ جَانِبِهَا- مُعَاوَضَةُ حَالَةٍ عَنْ الطَّلَاقِ، وَإِسْقَاطُ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْمِلْكِ، وَدَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ الْعِتْقُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ، وَكَثِيرِهِ، وَأَخْذُ الْمَالِ بَدَلًا عَنْ إسْقَاطِ الْمِلْكِ، وَالرِّقِّ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِمَا جَازَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَكَذَا جَازَ أَنْ تَضْمَنَهُ الْمَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ سَلَامَةِ الْبُضْعِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرِ لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ فَحَلَّ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ الْمَهْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.